بحث
بحث
تهجير أهالي الغوطة الشرقية ـ الجمهورية

تهجير برعاية المذابح وضمانة التضليل

اتفاقات الغوطة ومراحل التفاوض وظروفه

“هل نخرج مع قوافل المهجرين أم نبقى في أرضنا؟ هل حقاً سنعود يوماً إن خرجنا الآن؟ ألن نترك الأرض للأسد كما يريد إن خرجنا؟”. هذه كانت الأسئلة التي تصلني من الأصدقاء والأقارب في الغوطة الشرقية في شهر آذار 2018، وهي نفسها الأسئلة التي كانت تدور في كل غرف ومجموعات التواصل الاجتماعي، وفي الأقبية التي لجأ إليها أهل الغوطة احتماء من القصف، وفي الاستراحات القصيرة التي يحصل عليها كوادر الإسعاف والإنقاذ وغيرهم من النشطاء والناشطات أثناء استجابتهم للأضرار الجسيمة التي كانت تحدثها الآلة العسكرية للنظام السوري وحلفائه. وفي رأيي أنه لم يكن هناك جواب يحمل صواباً مطلقاً أو خطأ مطلقاً، خاصة مع النقص الهائل في المعلومات لدى عموم الناس بشأن ما كان يجري من تفاوض، وبشأن الحلول التي كانت مطروحة على الطاولة.

راحت سرديات مختلفة تُطرَح عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي أوساط أبناء الغوطة بعد التهجير، من بينها تقاذف اتهامات بتسليم الغوطة أو بالمسؤولية عن المصير الذي انتهت إليه. لكن الأرجح أن إنهاء تجربة الغوطة لم يكن يسيراً على أي أحد لوحده، بما في ذلك الجيش الروسي نفسه. ولا أنكر أن لديّ اعتزازاً كبيراً بتجربة الغوطة يدفعني إلى قول ذلك، لكن الوقائع على الأرض تدعم هذا الافتراض أيضاً؛ أنه ما كان ممكناً لجهة بعينها أو ظرف منفرد بعينه أن يقود وحده إلى هذا المصير.

في 15 نيسان 2018 خرجت القافلة الأخيرة من مهجري الغوطة من مدينة دوما باتجاه ريف حلب الشمالي، وبذلك اختُتمت حقبة سيطرت فيها عدة فصائل معارضة على الغوطة الشرقية أبرزها جيش الإسلام وفيلق الرحمن. سأتحدث في هذا المقال عن الظروف التي قادت إلى التهجير من الغوطة الشرقية، مع التركيز المفصّل على المجريات المتعلقة بمدينة دوما، وذلك لإحاطتي بتفاصيلها أكثر من مجريات باقي مناطق الغوطة، ولقدرتي على الوصول إلى كثير من الفاعلين الذين ساعدوني على استرجاع المجريات واستكمال بعض الحلقات المفقودة.

غوطتنا الخصبة:
مع خروج قوات النظام من الغوطة الشرقية، نهاية العام 2012، تشكلت سريعاً هيئات مدنية محلية لإدارة احتياجات السكان، وكما سائر المناطق الأخرى، كانت هذه الهيئات بداية تشكل المجالس المحلية والهيئات الخدمية. وبسرعة، كونت الغوطة الشرقية تجربة غنية جداً سواء في الحكم المحلي أو الخدمات أو الاستجابة الإنسانية أو غيرها، حيث فرضت هذه الأجسام نفسها على مقاربات الفصائل المسلحة المعارضة، مثل مجلس الشورى الذي حاول جيش الإسلام فرضه، لكنه فشل وأُجبر في العام 2015 على ترشيح موالين له والخضوع لصندوق الاقتراع ضمن محاولاته لوضع يده على الخريطة المدنية للغوطة.

وعلى الرغم من كل الضغوط الأمنية على النشطاء والفعاليات المدينة، سواء من قبل النظام أو الفصائل العسكرية، إلا أن التجربة المدنية في الغوطة الشرقية استطاعت أن تستمر وتطور علاقاتها مع المجتمع بما يتجاوز كونها مُقدِّمَ خدمات أو متعهِّد مشاريع. كان أحد أكبر التحديات لاحقاً أمام هذه الأجسام المدنية هو الشهية العالية لدى الفصائل العسكرية لوضع يدها عليها بشكل مباشر أو غير مباشر، إضافة إلى الانقسامات الأيديولوجية الحادة التي تبدت بوضوح في الاقتتالات المتتالية بين هذه الفصائل، والتي لعبت خلالها الأجسام المدنية دوراً كبيراً في حل الخلافات والتوصل لاتفاقيات محلية، دون أن تنجو الأجسام المدنية نفسها لاحقاً من هذه الانقسامات. 

كذلك، شهدت أعوام الحصار عدة مبادرات لإطلاق حوار مع النظام، للتفاوض سواءً على اتفاقية أو على هدنة مؤقتة، مثل مبادرة “بيكفي دم”. خلقت هذه المبادرات أقنية وتواصلات لبعض نشطاء ووجهاء من الغوطة مع شخصيات من سويات مختلفة في دمشق، أو شخصيات يملك أصحابها على الأقل أقنية واضحة مع أجهزة النظام الأمنية ليلعبوا دور الوسيط لاحقاً.

على النقيض من ذلك، فرض الحصار بشكل مقصود آليات تبادل تجاري معينة تتيح للنظام خلق شبكات من التجار، من أصحاب العلاقات داخل الغوطة من جهة ومع أجهزة النظام الأمنية من جهة أخرى، ما أدّى إلى تكوين اقتصاد حرب يعزز من سيطرة الفصائل على المدنيين، وأيضاً يعطي النظام نفوذاً كبيراً وتحكماً بالأقنية الاقتصادية للغوطة.

وهكذا كانت الغوطة الشرقية تمتلك أدواتها الواضحة لتمثيل المجتمع، وأيضاً أقنيتها المكشوفة أو المخفية للتفاوض مع النظام بشكل مباشر أو غير مباشر. وعلى مدار سنوات من الحصار، كان هناك بشكل متفاوت تفاوض على تبادل أسرى، أو هدنة مؤقتة، أو إدخال قافلة إنسانية، إو إخلاء جرحى. كما أن الحصار فرض على الغوطة أن تبتكر كثيراً من الحلول لتستمر في الحياة، سواء كانت حلولاً لوجستية لتعويض نقص المواد مثل توليد الطاقة من الغاز الحيوي وتصنيع السماد من النفايات وتصنيع المواد الطبية، أو حلولاً لنقل المعرفة والتواصل مثل التعليم الافتراضي والطب عن بعد. 

كان النظام يستفيد من كل هذا، ويفرض ضغوطاً هائلة في التفاوض على أي شيء، سواء مسألة المعابر أو تبادل الأسرى، أو حتى إخلاء جرحى. مثلاً، كان هناك رسوم مفروضة على كل كيلوغرام يدخل الغوطة من خلال المعابر، وهذه الرسوم لم تكن إتاوات تذهب لتجار الحرب من الطرفين فحسب، بل رسوماً للحرس الجمهوري بإيصالات في بعض الأحيان. كان النظام يلجأ إلى تشديد الحصار ليستطيع فرض الرسوم التي يريد، ويسيطر على شبكات تحويل وتصريف القطع الأجنبي بحيث يحقق وارداً واضحاً من الغوطة.

مثال آخر هو إخلاء المرضى، حيث كان النظام يماطل ليقوم الجميع بالتدخل لإخلاء المرضى الذين يحتاجون علاجات متقدمة في مشافي دمشق بما فيهم الأمم المتحدة والدول المعنية في الشأن السوري، وفي النهاية يفاوض الفصائل المسلحة على أسرى مقابل علاج المرضى. ومن أمثلة ذلك عملية إخلاء 29 مريضاً من الغوطة في نهاية كانون أول (ديسمبر) 2017، إذ كانت قائمة المرضى قد أرسلت من قبل المؤسسات الإنسانية قبل شهر من عملية الإخلاء بوصفها أكثر الحالات خطورة مع تفضيل واضح للأطفال، وتدخلت قيادة العملية الإنسانية في سوريا المرؤوسة من بعثتي روسيا والولايات المتحدة في جنيف، ومكتب الأمم المتحدة في دمشق، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، وفي النهاية لم يخرج هؤلاء الأطفال إلا بعد إطلاق سراح أسرى لدى جيش الإسلام. تبنى الجميع العملية كنصر مبين، بينما كان هناك ما يقارب ألف مريض على القائمة يموتون، عدا عن وفاة 5 من قائمة الـ29 مريضاً في الوقت بين إعداد القائمة وبدء التنفيذ.

قطع الشرايين:
في العام 2017، ومع اتفاقيتي “المصالحة” في القابون وبرزة، جارتي الغوطة اللتين شكلتا شريان الغوطة من خلال الأنفاق بينهما وبينها، كانت الغوطة تتجه نحو مصير محتوم. وكان واضحاً أيضاً أن المفاوضات التي تجري برعاية روسية في أستانا وسوتشي لن تحمل أي حل، لا بالنسبة لأهالي الغوطة ولا لفصائلها العسكرية، بل إن الغوطة لم تكن تحضر بوضوح على أجندة هذه المفاوضات. كان مصير الغوطة غير واضح المعالم في ذلك الوقت، ولكن تتالي الاتفاقيات المحلية بين فصائل المعارضة والنظام في كل المناطق المحيطة بالعاصمة دمشق كان مؤشراً واضحاً على اقتراب عملية عسكرية ضد الغوطة، أكبر معاقل المعارضة في محيط دمشق. كما جاء تشديد الخناق على الغوطة بعد إغلاق الأنفاق مع برزة والقابون، وتخفيف الحركة التجارية على معبر مخيم الوافدين – المنفذ الوحيد للغوطة – إلى حدودها الدنيا، ليكون مؤشراً على أن على الغوطة أن تستعد لحملة عسكرية قاسية. سبق هذا اقتتالات داخلية متتالية ومتعددة، بدءاً من حملات جيش الإسلام لتصفية خصومه في دوما (جيش الأمة) بداية عام 2015، إلى الاقتتال على خلفية التنافس على السيطرة والنفوذ في عموم الغوطة مع فيلق الرحمن وجبهة النصرة في شهري نيسان (أبريل) من العامين 2016 و2017. لم تستثنِ هذه الانقسامات الجهات المدنية، حيث تم تشكيل ما يدعى القيادة الثورية، التي وإن لم تُعرِّف عن نفسها كجسم حكم محلي، إلا أن الحساسيات بينها وبين مجلس المحافظة والحكومة السورية المؤقتة كانت واضحة. 

بدأت نتائج الحصار تتضح، وأصبح الاحتياج الإنساني كبيراً ومتفاقماً. ومع الأسف، فإن معاناة المدنيين هي ما يمكن أن تجذب أنظار الصحافة والإعلام، وبالتالي بدأت الغوطة تحظى ببعض الانتباه والضغط لدخول مساعدات إنسانية وإخلاء بعض الحالات المرضية، خاصة مع تصاعد الضربات العسكرية على الغوطة، التي لم تتوقف منذ 2011، ولكنها تصاعدت في الأشهر الأخيرة من 2017 لتتحول مع بداية 2018 باتجاه معركة كسر عظم. 

كانت محاور الهجوم البري تعتمد على اقتطاع الأراضي الزراعية، التي لم تصمد طويلاً بعد سقوط خطوط الدفاع الأولى خاصة مع كثافة نيرانية عالية، ومن ثم تقسيم الغوطة إلى ثلاث قطاعات منفصلة عن بعضها. لم يكن النظام يحتاج لتقسيم الغوطة من أجل التفاوض مع قطاعاتها فرادى، فقد كانت مقسمة أساساً لثلاث قطاعات تبعاً للفصائل الثلاث الأساسية المسيطرة على الغوطة في كل من دوما (جيش الإسلام) وحرستا (أحرار الشام/لواء فجر الأمة) والقطاع الأوسط (فيلق الرحمن)، وهو ما جرى بالفعل، ولكن التقسيم الفيزيائي الفعلي على الأرض كانت مهمته إضعاف الغوطة لوجستياً وتحطيم المعنويات. وهنا لا بد أن نذكر أن حصار الغوطة لم يكن فيزيائياً فقط، فنمط الحياة في مساحة جغرافية ضيقة جداً جعل الأفق محدوداً بالنسبة لكثيرين، وخاصة الفصائل العسكرية ومنظّريها الشرعيين، كما أنه حدَّ من استفادة الغوطة من تجارب المناطق الأخرى. عدا ذلك، فإن كثيراً من الظروف على مدار سنوات كانت قد دفعت العديد من خبرات الغوطة للمغادرة، وهذا ترك مجموعة قليلة من الفاعلين والنشطاء وحدهم في وجه كثير من التحديات.

لجان:
مع ازدياد حدة العمليات العسكرية في شباط 2018 بدأت الجهات المدنية في الغوطة الشرقية تعمل على عدة مستويات. وعلى الرغم من أن الاحتياج الإنساني الحاد تصدّرَ المشهد، وخاصة مع ظهور متكرر لحالات سوء التغذية التي بدأت تتفاقم في الغوطة، واتساع فجوة الخدمات الصحية نتيجة الحصار، إلا أن العمل المدني كان يجري في عدة مسارات، وكان الهم الرئيسي الذي يشغل بال الجميع هو مستقبل الغوطة والاتجاه الذي تسير إليه.

وبدأ كلٌّ من مكانه وموقعه، سواء المجالس المحلية أو المنظمات الإنسانية أو القوى السياسية، بالتواصل مع شبكاتهم ومعارفهم في محاولة لتحشيد الأصوات بهدف الضغط لفك الحصار وإيقاف العملية العسكرية والوصول إلى تسوية سياسية، وخلال بضعة أسابيع تكشَّفَ وجود مفاوضات تجري بين قيادة الفصائل المعارضة العسكرية والروس بعلم مجموعة ضيقة ومقربة من كل من الفصائل الثلاث الأكبر في الغوطة.

المجموعات في الخارج:
1- شكلنا في تركيا مجموعة عمل صغيرة لنلتقي مع المعنيين من دول ووكالات أمم متحدة، ونحاول الضغط عليهم للتحرك باتجاه وقف التصعيد العسكري والعمل لإيجاد حلول تضمن حماية المدنيين. وكان العنوان الرئيسي للضغط الذي كنا نقوم به: «أشركوا المدنيين في مفاوضات تحت رعاية دولية ورقابة أممية». ضمّت المجموعة سبع ناشطات ونشطاء كنتُ واحداً منهم، ولاحقاً أصبحت هذه المجموعة تمثل ما عُرف بالتكتل المدني، ولذلك سنسميها «ممثلي التكتل في الخارج» على الرغم من أن عملها بدأ قبل تشكيل التكتل.

تَشكّلت غيرنا عدة مجموعات عمل، وكلٌّ في نطاقه:

2- حيث تم تشكيل مجموعة عمل من ممثلي المؤسسات الخيرية المحلية العاملة في الغوطة والموجودين في اسطنبول. كان بعضهم على صلة جيدة بشخصيات حكومية تركية، وسنُطلق عليهم «مجموعة اسطنبول».

3- كانت المنظمات الإنسانية العاملة في الغوطة تعمل منذ فترة لا بأس بها على تعزيز الاستجابة الإنسانية، ولم يكن صعباً تنسيق العمل بينها، فكما أسلفت كانت الجهات المدنية العاملة في الغوطة تعرف بعضها جيداً، وعملت مع بعضها لسنين طوال. وفعلياً لم تتشكل هنا مجموعة خاصة، بل استمرّ العاملون في الغوطة إنسانياً بالتنسيق مع بعضهم مستفيدين من المساحة التي تعطيها تحالفات المنظمات الإنسانية وآليات تنسيقها.

4- إلى جانب ذلك، حاول نشطاء وناشطات وعاملون في الشأن العام، وخاصة المجتمع المدني، التواصل والضغط من خلال مكتب المبعوث الخاص، وشكلوا مجموعة لهذا الغرض، وقاموا في الثامن عشر من آذار (مارس) 2018 بصياغة ورقة تقنية تتضمن توصيات لحماية المدنيين، وأرسلوا عدة رسائل لمجلس الأمن بعد جمع تواقيع. كانت هذه مجموعة من الناشطات والنشطاء ينسقون على عدة صعد، وليس الغوطة فقط. 

إضافة إلى ذلك، تشكلت عدة مبادرات وحملات مناصرة من ناشطات ونشطاء سوريين عملوا على تنظيم فعاليات ووقفات احتجاجية في كثير من دول العالم، وعلى رأسها حملة الغوطة.

نجحت هذه الأنشطة والأعمال في دفع بعض الدول إلى بذل القليل من الجهود، ولكن لم تكن هذه الجهود تتجاوز حفظ ماء الوجه أمام هول المجازر، وخاصة مع دخول التصعيد العسكري في 18 شباط (فبراير) مرحلة قاسية جداً لم تتوقف فيها المروحيات العسكرية عن إلقاء كافة أنواع الذخائر فوق كافة أحياء الغوطة. عُقِدَ مجلس الأمن مرات متتالية، واستقبلَ ممثلين عن المجتمع المدني ليتحدثوا عن الوضع في الغوطة، واستمر المبعوث الخاص ونائب الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في تقديم إحاطاتهم المتتالية التي تستجدي تحركاً، ولكن دون جدوى. بعد طول عناء، تمخَّضَ الجبل فوَلَدَ هدنة لمدة شهر، صمدت لمدة يومين فقط، وأعلن بعدها الجيش الروسي أنهم سيلتزمون بهدنة لمدة خمس ساعات يومياً فقط.

المجموعات في الداخل السوري:
1- سارع نشطاء وناشطات الغوطة لتشكيل جسم أسموه «التكتل المدني»، ضمّ أغلب المجالس المحلية والمنظمات الأهلية ومجلس المحافظة وكثيراً من الشخصيات والوجهاء، بحيث يشكل ثقلاً ضاغطاً على العسكريين سواء من فصائل الغوطة أو الحكومة الروسية ليقبلوا بوجود صوت للمدنيين. كان الهدف الرئيسي هو خلق مسار تفاوض واحد لمصير واحد لكل الغوطة، بدلاً من ثلاثة مسارات حسب الانقسامات العسكرية في القطاعات الثلاث.

2- كانت الفصائل العسكرية قد بدأت فعلاً بالتفاوض، وكان لكل منها مجموعة من المدنيين إلى جانبها، ففي مناطق سيطرة فيلق الرحمن كانت القيادة الثورية السابق ذكرها، وكان جيش الإسلام في مناطق سيطرته يتذرّع بوجود ممثلين عن المجلس المحلي لمدينة دوما من المقربين منه ضمن الوفد المفاوض. دفعت هذه الظروف نشطاء وأطباء من دوما لتشكيل لجنة مدنية من أربعة وعشرين شخصاً للضغط على جيش الإسلام من أجل ضمّ شريحة أوسع من المدنيين في التفاوض.

كانت هذه الجهود تجري في بيئة ضاغطة جداً، مع إمكانية لقاءات فيزيائية محدودة جداً نتيجة حدة القصف وبدء انقسام الغوطة فيزيائياً إلى ثلاثة قطاعات لا يمكن العبور بينها بسبب العمليات العسكرية. وقد أدّى هذا إلى بضعة أيام من الالتباس بين عمل كل هذه اللجان، وفي النهاية تم ترشيح بعض الأسماء دون التشاور معهم، وتمت إضافتهم إلى قائمة الأربعة وعشرين شخصاً. كان بعض أعضاء لجنة الأربعة وعشرين شخصاً موجودين في التكتل المدني المشكّل عن الغوطة كلها، وهو التكتل الذي فوض المجموعة التي أنتمي إليها في تركيا لتمثيله في اللقاءات الرسمية في الخارج. 

وللتمييز بينهما، فإن التكتل المدني أُعلِن تشكيله من نشطاء وناشطات وجِهات مدنية من كل الغوطة، وهدفه إلغاء المسارات الفردية لكل فصيل وجعل الغوطة مساراً واحداً، وإبراز صوت المدنيين وضمان وجودهم في المفاوضات. أما لجنة الأربعة وعشرين التي تشكلت في دوما بمبادرة من نشطاء وأطباء فقد كان هدفها الضغط على جيش الإسلام لضمان صوت للمدنيين في المفاوضات، وأُعلن عن وجودها في 18 آذار (مارس) بعد يومين فقط من إنشاء التكتل، وعملياً قبل أيام فقط من الاتفاقات التي حصلت في حرستا والقطاع الأوسط. وعلى أي حال، كان هناك عدة أشخاص مشتركين بين اللجنة والتكتل.

تجدر الإشارة إلى غياب صوت النساء في المفاوضات على الرغم من حضورهنّ الفاعل على مدار سنوات في الغوطة، ومنذ الأيام الأولى للثورة في 2011 حتى الحراك المدني الذي واكب الحملة العسكرية التي انتهت بالتهجير. لقد ضمّ التكتل المدني مجموعة كبيرة من النساء في الداخل، إضافة لوجود سيدتين في مجموعة التمثيل في الخارج، بينما لم يكن هناك نساء في اللجان التي فاوضت وقابلت النظام والجيش الروسي. وخلال اللقاءات المكوكية اللاحقة بين المدنيين وجيش الإسلام، حضرت المرأة مرات قليلة، وغالباً ضمن اجتماعات فيها عدد كبير من النشطاء والفاعلين، وكان يغلب على هذه الاجتماعات الشكل الخطابي أكثر من صيغة النقاش. 

كان واضحاً أنه لم يكن هناك قبول لانخراط التكتل المدني في التفاوض، لا من جانب فصائل الغوطة ولا من الجيش الروسي. كان الجانب الروسي قد شكّل مجموعة نشطاء مرتبطة به، وبالذات من العاملين في الهلال الأحمر السوري مثل الدكتور سيف خبية والدكتور عدنان طباجو، وذلك بعد زيارة لوفد من شعبة دوما للهلال الأحمر إلى دمشق في 28 شباط لتنسيق العمليات الإنسانية، وهذه الزيارة لم تكن أمراً معهوداَ على الإطلاق. وقد استطاع الجانب الروسي على ما يبدو، بالترغيب والترهيب، كسبهم إلى صفه بشكل مطلق واستخدامهم فيما بعد لإيصال رسائل للجهات الفاعلة في الغوطة، أو لاحقاً لجذب غيرهم من النشطاء وخاصة العاملين في القطاع الطبي واستخدامهم كشهود زور على الإعلام في البروباغندا ضد قضية استخدام السلاح الكيماوي. كذلك لم يكن الجانب الروسي في وارد ضم مدنيين بشكل جدي إلى المفاوضات، لأن من سينفّذ أي اتفاقيات في النهاية هو الفصائل العسكرية. وعلى الطرف الآخر، كان هناك لكل فصيل من فصائل الغوطة مجموعته الخاصة من المدنيين التي تتوافق معه وتعمل معه منذ سنين، ولم يكن أي فصيل في وارد تغيير هذه المعادلات في وقت حرج كهذا. وإذا كان هذا واضحاً في دوما بشكل كبير، فإن باقي الفصائل لم تكن أكثر قبولاً للدور المدني، ولكنها كشّرت عن أنيابها في وقت متأخر.

استطاعت لجنة الأربعة وعشرين فيما بعد أن تفرض وجود أربعة من المدنيين في المفاوضات التي كانت تجري في مدينة دوما بين جيش الإسلام والجانب الروسي. وتم التفاوض طويلاً على الأسماء، إذ رفض جيش الإسلام عدة مقترحات. وحتى بعد إقرار أربعة أسماء، ذهب الوفد المفاوض بعد أربعة أيام للقاء ممثل الجيش الروسي، الجنرال زورين، مصطحباً ثلاثة منهم فقط، متجاهلاً الشخص الرابع. كما أن جيش الإسلام رفض إضافة شخصيات معينة على قائمة الـ24 شخصاً.

مبادرات:
تم تداول مبادرتين أساسيتين بين نشطاء الغوطة والقيادات المدنية فيها، وقد حصلتُ على النصوص الكاملة لهاتين المبادرتين من شخصيات في الغوطة، كانت بدورها قد تلقّت هذه النصوص بشكل مباشر من كل من السيدة ريم تركماني صاحبة المبادرة الأولى، وهي أكاديمية سورية، والسيد عزت بغدادي صاحب المبادرة الثانية، وهو باحث سوري. وكلا الشخصيتين السوريتين تقيمان في أوروبا، وتملكان صلات جيدة في الوسط الدبلوماسي. طرحت كلا المبادرتين حلولاً قد يكون شكلها الظاهر أنها تؤدي إلى النتيجة نفسها، ولكن كانت هناك فروقات مهمة جداً بينهما، بدءاً من شكل المبادرة نفسها وطريقة تقديمها إلى اقتراح الجهة الضامنة، وكذلك في النموذج أو شكل الاتفاق الذي تؤدي إليه المبادرة.

مبادرة السيدة ريم تركماني:
بين شباط وآذار 2018 كانت السيدة ريم تركماني تتواصل مع شخصيات مدنية بارزة في الغوطة، من مجلس محافظة ريف دمشق والحكومة المؤقتة ومجالس محلية وفعاليات مدنية، لتطرح مبادرة بوساطة الهلال الأحمر وضمانة روسيا، يمكن تلخيص مضمونها كالآتي: (1) مسار أمني وعسكري يشمل تحويل الفصائل إلى شرطة محلية وتسليم السلاح الثقيل؛ (2) مسار مدني يشمل تشكيل لجنة مدنية تعمل على استعادة تدريجية لمؤسسات «الدولة» بتنسيق كامل مع دمشق؛ (3) مسار إنساني يسمح بدخول المساعدات الإنسانية. وتم الحديث في المبادرة عن العمل على تحرير المعتقلين والمخطوفين مع تخصيص مخطوفي عدرا العمالية، كما ذكرت بوضوح اعتماد نموذج اتفاق مدينة الهامة، وهذا ما كان يقوله الجميع عند السؤال عن هذه المبادرة وفحواها: «نموذج الهامة». لكنها سُميَّت فيما بعد «مباردة ريم تركماني»، وبات واضحاً بعدها أن هناك جزءاً كبيراً من نشطاء الغوطة على تواصل وتشبيك مع السيدة ريم منذ مدة، وأن مضمون المبادرة لم يكن جديداً بالنسبة لهم.

مبادرة السيد عزت بغدادي:
مع بداية شهر آذار 2018، كان السيد عزت بغدادي على تواصل مع عدة جهات محلية لتقديم مبادرة للحل تقترح ألمانيا كجهة ضامنة. وتضع المبادرة عدة مسارات، تفترض بدورها عدة سيناريوهات، وتفترض في النهاية حدوث دمج تدريجي لكل المسارات العسكرية والمدنية بحيث تعود مؤسسات الدولة للعمل، ولكن على مراحل متعددة وبوجود ضمانات دولية. لاحقاً، في السادس والعشرين من آذار، وبناء على التطورات، أرسل السيد عزت بغدادي ملحقاً للمبادرة بتعديلات كبيرة بناء على التحديثات والمجريات بما يخصص المبادرة لمدينة دوما.

سنصمد حتى آخر قطرة من دمكم
كان حجم الضغط على الجميع كبيراً، وكانت كتلة الأطباء في مدينة دوما تحاول أن تتجنب كلفة كبيرة للمصير المحتوم، وتحاول الضغط على جيش الإسلام. ولكن «الخطاب الممانع» لجيش الإسلام استمرّ، وتصاعد بعد ذلك إلى خطاب تخويني لكل من يتحدث بقبول شروط وقف إطلاق النار والخروج من المدينة.

كان الشيء الوحيد الغامض بالنسبة للمدنيين في كل ذلك هو المفاوضات التي تجري مع الروس، ففي حين كانت أراضي الغوطة تُقضَم بسرعة – حتى أن الأسد زارها وصُّور في فيديو وهو فيها أثناء الحملة العسكرية – كان قادة الفصائل يقدمون خطاباً حماسياً بشكل سينمائي استعراضي وبمفردات جهادية، فيما تناقلت غرف الأخبار تسجيلات صوتية تؤكد صمودهم «حتى آخر قطرة دم». أما دم مَن فلم يكن ذلك ضمن التوضيحات التي قدموها للمدنيين.

توالت الأخبار عن لقاءات تُعقد بين النظام والفصائل في كل من قطاعات الغوطة الثلاث (حرستا، دوما، القطاع الأوسط) على حدة، وتناقل المدنيون أخبار المبادرات مع وجهات نظر مختلفة حولها ودون معرفة كاملة بمحتواها. وقد احتكرت قلّة قليلة معرفة بنود تلك المقترحات، خاصة مع تضارب التصريحات وتغير العروض بين يوم وآخر، وورود أخبار عن أقنية مفتوحة مع النظام، وبدء بعض القيادات فعلاً بالخروج. على سبيل المثال، في 17 كانون الثاني (يناير) 2018 انتشرت صور من السودان للقاضي في مجلس القضاء الموحد عدنان عبد العزيز (أبو يوسف)، وأثار ذلك موجة من الانتقادات والاتهامات حول ما يجري في الخفاء بين جيش الإسلام والنظام، فيما صرّح جيش الإسلام أن القاضي خرج عبر معبر مخيم الوافدين، ومن ثم مطار دمشق الدولي، في مهمة لجيش الإسلام. يُذكر أن القاضي عبد العزيز يواجه اتهامات من عدة نشطاء بانخراطه في عمليات إعدام وتعذيب سجناء في سجن التوبة التابع لجيش الإسلام.

جرب قادة فصائل الغوطة في هذه الفترة مخاطبة المجتمع الدولي لمواجهة تبريرات روسيا بمكافحة الإرهاب، وعرضوا إخراج جبهة النصرة خارج الغوطة، وبالفعل وجَّه جيش الإسلام إلى مجلس الأمن في الثاني عشر من آذار رسالة يعرض فيها خروج جبهة النصرة، لكن هذا العرض لم يلقَ أهمية أمام تقدم النظام العسكري على الأرض. ثم عاد جيش الإسلام ليخاطب مجلس الأمن مرة أخرى بعد أسبوعين فقط إثر تهديدات روسية باقتحام مدينة دوما، لينذر بأن «خروج المقاتلين منها سيعرّضها لاستباحة الدماء والأعراض»، معتبراً أن رسالة روسيا خرق فاضح لكل القرارات الدولية، وانتهاك لحقوق الإنسان، محملاً مجلس الأمن المسؤولية. 

في مصالحات الغوطة كان التعتيم سمة غالبة، وكانت مشاركة المعلومات مع الجمهور العام ضعيفة جداً، وأغلب ما يسمعونه هو خطابات حماسية تداعب مشاعرهم الدينية تارة، وتداعب رغبتهم بالبقاء تارة أخرى. خلف هذا الجمهور، كان هناك فئة من النشطاء والعاملين بالشأن العام لا يصلها مما يجري في التفاوض إلا النزر اليسير. وعلى الرغم من انخراطي بشكل مباشر في اللقاءات مع كل الأطراف الفاعلة في الشأن السوري، وعلى الرغم من وجودي في العشرات من المجموعات التي تناقش شأن الغوطة، إلا أن ما كان يجري في تلك اللقاءات بين الروس وجيش الإسلام – ولاحقاً بحضور أربعة من المدنيين انتقاهم جيش الإسلام من قائمة طويلة، بالإضافة لممثل عن مكتب المبعوث الخاص للأمم المتحدة – بقي غامضاً ولا يصل منه إلا معلومات قليلة، وفقط إلى مجموعة محددة من التكتل المدني، ومن ثم معلومات أقل بكثير إلى الجمهور العام. أما الباقي فقد كان خطابات حماسية من القيادات العسكرية، مثل خطاب الشمير قائد فيلق الرحمن الذي وجه فيديو لأهالي الغوطة يحثهم على الصمود في التاسع من آذار، قبل أسبوعين فقط من الاتفاق بشأن القطاع الأوسط الذي يسيطر عليه الفيلق، أو البويضاني قائد جيش الإسلام، الذي وجه رسالة لفصائل درعا في الرابع والعشرين من آذار تحثهم على دعم صمود الغوطة وتعلن القتال حتى آخر «قطرة من الدماء». وأيضاً من قيادات دينية، مثل الشيخ أبو سليمان طفور الذي أطلق فيديو في الخامس عشر من آذار يعلن صمود «الغوطة التي وقفت في وجه الفرنساوي»، فيما ذهب آخرون بعيداً مثل الشيخ سعيد درويش، الذي على صفحته على فيسبوك عن أحلام ورؤى عن الرسول محمد على حصان أبيض مع مجموعة فرسان يتوجه ليقاتل ضد النظام في الغوطة.

جلسات مكوكية:
حاول جيش الإسلام التهرب من وجود مدنيين معه في اللقاءات التفاوضية مع الروس، وأثناء النقاشات مع اللجنة المدنية، قال بوضوح إن قناة التفاوض مع الجانب الروسي مفتوحة منذ مدة لا بأس بها، وإنها تناقش أموراً عسكرية غالباً. عدا ذلك، كان جيش الإسلام قد رفض أن يضمّ مسار التفاوض مع حرستا والقطاع الأوسط، وهو ما يوضّح سبب رفضه للتكتل المدني الذي كان يحاول أن يربط المسارات الثلاث، فيما كان غائباً عنا كمدنيين في الغوطة وفي المجموعات العاملة في الخارج أن الاتفاقات مع أحرار الشام وفيلق الرحمن أصبحت قاب قوسين أو أدنى.

بدأت أراضي الغوطة وبلداتها بالتساقط بشكل سريع، واستمرت الاجتماعات بشكل مكثف بين جيش الإسلام والمجموعات المدنية، وكانت الغوطة وقتها قد أصبحت مقسمة إلى ثلاث قطاعات واضحة بدون أي صلة فيزيائية بينها على الإطلاق، وأُعلن بعدها على التوالي عن اتفاقين منفصلين؛ لحرستا في العشرين من آذار، وللقطاع الأوسط في الثالث والعشرين منه، وبقيت دوما لوحدها تنتظر مصيرها.

سأطلق تسمية «وفد التفاوض» على المجموعة المشكلة من قياديين في جيش الإسلام ومن المدنيين الذين انضموا لهذا الوفد في الأسبوع الثالث من آذار 2018، بالتزامن مع اتفاقيات حرستا والقطاع الأوسط. ضمّت هذه اللجنة أربعة مدنيين مع ممثلين عن قيادة جيش الإسلام، من بينهم رئيس المكتب السياسي أبو عمار دلوان، وكان يحضر عن الجانب الروسي الكولونيل ألكسندر زورين، وعن النظام ضابط من أمن الدولة برتبة عقيد، إضافة إلى كنانة حويجة معرِّفةً عن نفسها كممثلة علي مملوك، ورنا زقوط معرِّفةً عن نفسها كممثلة مكتب المبعوث الخاص للأمم المتحدة. كما حضر إحدى الجلسات اللواء محمد ديب زيتون الذي تنقَّلَ في عدة مناصب قيادية أمنية كان آخرها رئيس مكتب الأمن الوطني. جرت الاجتماعات في أول نقطة من مناطق سيطرة النظام في مخيم الوافدين إلى جوار دوما. 

عُقِدَ اللقاء الأول مع وفد التفاوض بداية الأسبوع الرابع من شهر آذار. قدَّم الوفد مبادرة للحل بما يشبه سيناريو الاتفاق الذي حصل في بلدة الهامة بريف دمشق، وباقتباس من مبادرة السيدة ريم تركماني. وقد حضر هذا اللقاء الكولونيل زورين وعقيد من أمن الدولة، وكان زورين مزهواً بانتصاره بتحقيق اتفاق في حرستا والقطاع الأوسط يقضي بخروج الفصائل العسكرية.

في الخامس والعشرين من آذار، اجتمع الوفد مرة أخرى مع الجنرال زورين، الذي تكلّم بلهجة مختلفة وحادة جداً، وبدأ حديثه بأنه يمثل دولة روسيا الاتحادية وأن كنانة حويجة تمثل رئاسة الجمهورية العربية السورية، «فمن يمثل هذا الوفد!!!»، قاصداً الاستهزاء بالوفد الذي يفاوض باسم دوما، مشيراً إلى صغر حجم الرقعة التي تشغلها الغوطة الشرقية. قدّم زورين عرضاً بخروج «1500 راديكالي مع عائلاتهم» فقط دون أي شروط. وعندما طلب وفد التفاوض تعريف «الراديكالي»، ردَّ زورين بأن الراديكالي هو «كلّ من لا يقبل بوجود الأسد كرئيس وكل من لا يقاتل في قواته». أعطى زورين مدة 24 ساعة للرد على هذا الاتفاق قبل معاودة القصف على الغوطة، وخلال هذا اليوم لم يغادر طيران الاستطلاع المدينة على الرغم من انخفاض كبير في حدة القصف.

حاول الوفد كسب الوقت وتأجيل اللقاء، وانعقد لقاء آخر في السابع والعشرين من آذار بوجود كنانة حويجة وزورين وزيتون. وكانت لهجة اللقاء أقل حدة، إذ حاولت حويجة أن تطرح أن الحل يجب أن يكون سورياً، وأنه ليس على أحد الخروج من بيته وأن بإمكان الجميع البقاء، مظهرةً صورة من جاء بحلّ فيه الفرج. حاول بعض أعضاء الوفد أن يأخذ دور الوسيط، حيث كان يناقش بعض البنود بحجة صعوبة إقناع جيش الإسلام. 

كانت هذه حقيقة، إذ كان الجزء الصعب هو إقناع جيش الإسلام. رفضت حويجة نقاش موضوع المعتقلين، ورحبت بطرح قدمه الوفد حول أوضاع مراكز الإيواء، وعرضت إجراء زيارة مشتركة لمراكز إيواء المهجّرين في مناطق النظام. في النهاية، طلبت حويجة دخول الغوطة للقاء مشايخ جيش الإسلام، وألحّت بشكل كبير. عاد الوفد إلى دوما محملاً بهذه الرسائل، وبالطبع قوبلت برفض من مشايخ جيش الإسلام، بما فيها زيارة مراكز الإيواء. في صباح اليوم التالي، أي بعد ساعات قليلة من رفض قادة جيش الإسلام للقاء حويجة، تسرَّب خبر عن لقائها فعلاً لبعض قادة جيش الإسلام، وذلك في وقت لاحق من نفس الليلة داخل مناطق سيطرتهم. 

اجتمع جيش الإسلام في هذه الأثناء مع عدد كبير من الوجهاء والنشطاء والأشخاص الفاعلين في المدينة، وبدأت مجموعة كبيرة من مناصريه في الوقت نفسه بالعمل على إظهار المُطالِبين بالتفاوض من أجل حل سياسي على أنهم خونة ومتخاذلون و«مرجفون». 

عاد زورين ليمثل دور أسوأ السيئين في الجولة التالية، وأعطى وفد التفاوض حتى العاشرة من مساء اليوم نفسه ليعطي جواباً نهائياً حول الخروج باتجاه منطقة الباب، وإلا فإنه سيحول دوما إلى «مكعب من الرمل» حسب تعبيره. عاد الوفد ليجتمع مرة أخرى مع باقي أعضاء لجنة الأربعة وعشرين، ورفض جيش الإسلام العرض مرة أخرى.

كنتُ وقتها أعيبُ على الوفد تكتمه وعدم بوحه بأي معلومات عمّا كان يجري، ولكن فعلياً كان المدنيون في هذا الوفد تحت ضغط شديد بين رؤيتهم الواقع الدامي في الغوطة، وإنكار جيش الإسلام وإصراره على الاستمرار بالمماطلة، وتهديدات زورين، وتحايل حويجة. مثلاً، في إحدى المرات قام زورين بالتحدث جانباً مع بعض أفراد وفد التفاوض محاولاً استدراجهم، وطلب منهم التعاون في مشاركة معلومات. وليتخيل القراء كم كان هذا ضاغطاً.

ماطل جيش الإسلام حتى في موعد الاجتماع مع اللجنة المدنية لاتخاذ قرار نهائي، ليجري الاجتماع صباح الثلاثين من آذار بعد نقاش وأخذ ورد طويلين.

جلسة الرقية الشرعية!
إذن، في الثلاثين من آذار (مارس) 2018، اجتمعت مجموعة من النشطاء وممثلي المؤسسات المدنية – بينهم عدد من أطباء المدينة – مع قياديي جيش الإسلام، وذلك ليطالبوا – وبينهم أصوات من داخل جيش الإسلام نفسه – بالقبول فوراً بالعروض المقدمة لإيقاف شلال الدماء. وتم استعراض انهيار قدرات مؤسسات المدينة من مجلس محلي ومراكز طبية، فيما قابل ذلك قادة جيش الإسلام بخطبة عصماء عن الجهاد والقتال والتاريخ النبوي، وعن أن دوما آخر معقل لأهل السنة في الشام. أبو عبد الرحمن كعكة، شرعي جيش الإسلام، كان يردّ على الأطباء الذين أبلغوا الجيش بأنهم سيخرجون مع قوافل فيلق الرحمن، ويقول إنه حتى لو خرج الأطباء ما زال بإمكاننا «علاج الناس بالرقية الشرعية، وليخرج من يريد أن يخرج»، ذاكراً حادثة سابقة عالج فيها مرضى السرطان بهذه الطريقة. كان الأطباء يحاولون شرح احتياجات العمليات الجراحية بشكل تقني دون جدوى. أتذكّر وقتها حديثي لاحقاً في نفس اليوم مع طبيبة نسائية كانت قد صمدت في المدينة كلّ ذلك الوقت، قالت فيه لي: «هل أحوّل الولادات القيصرية لأبو عبد الرحمن ليجري قيصرية بالرقية الشرعية؟».

تشكل جلسة الرقية الشرعية نقطة مفصلية في ذاكرة نشطاء مدينة دوما، فقد حفرت في ذاكرتهم طريقة النقاش الاستفزازية لجيش الإسلام، التي تصر على استخدام المشاعر الدينية والعواطف في وقت كانت عقارب الساعة تعد أرواح المدنيين، فيما كان يتم استعراض القدرات المحدودة للمدينة التي أصبحت قوات النظام على حدودها. كان لدى المدنيين فعلاً فضول لمعرفة ما الذي يجعل جيش الإسلام مصراً على إنكار كل هذا، رغم أن قادته يدركون حجم آلة القتل حتى أصبحوا لا يمشون إلا في الأنفاق، محصّنين بيوتهم ومقراتهم بتلال من الرمال والتراب. 

أحد النقاط التي ذكرها قادة في جيش الإسلام في هذه الجلسة أن «من أشعلوا الثورة سيتولون [يهربون] الآن»، مشيرين بذلك إلى عدد من القيادات المدنية التي كانت بالفعل تقود الحراك في مدينة دوما منذ اليوم الأول، والذين أشعلوا الثورة لكنهم بحسب الجيش حين جاء وقت دفع الضريبة يريدون «التولي» أي الخروج من الغوطة. أما هذه القيادات فكانت ترى أن جيش الإسلام يحاول التمسك بالأرض رغم أنه لم يكن بين من أشعل الثورة في البدايات. قال كعكة وقتها إن التيار السلفي لم ينخرط في الثورة حتى وقت لاحق، وإن ذلك تم بالتشاور مع قيادات دينية بعضها خارج سوريا. ورغم أني أذكر تماماً العديد من وجوه التيار السلفي في تشييع شهداء دوما الأوائل في بداية الحراك في الثالث من نيسان 2011، لكنهم ربما فعلاً لم ينخرطوا كتيار إلا لاحقاً.

الاتفاق:
أخيراً، وفي مساء 31 آذار 2018، وقّع رئيس المكتب السياسي لجيش الإسلام برفقة الوفد المفاوض على اتفاق يقضي بخروج الجرحى باتجاه منطقة الباب كبادرة حسن نية، على أن يقوم جيش الإسلام بتسليم السلاح الثقيل خلال يومين والسلاح المتوسط خلال أربعة أيام، وبعدها تدخل مؤسسات الدولة ويبقى من يريد تسوية وضعه تحت ضمانة الشرطة العسكرية الروسية والكتيبة الشيشانية لضبط عدم حدوث اعتداءات. طلبتْ حويجة أن تسمع هذا الكلام من أبو قصي الديراني بشكل مباشر، وبالفعل دخلت إلى داخل مناطق سيطرة جيش الإسلام لتجتمع مع الديراني في أحد المقرات لتأكيد الاتفاق شفهياً.

في نفس اليوم، كان محمد علوش على شاشة تلفزيون العربي ينفي أي اتفاق وينفي أي نية بالخروج وينفي وجود الخروج من الغوطة ضمن حسابات جيش الإسلام. ولكن بالفعل خرجت أول قافلة جرحى يوم 2 نيسان، وعملياً خرج فيها نشطاء ومدنيون مع عائلاتهم. وكان قد سبقها قبل يومين قافلة ملحقة باتفاقية فيلق الرحمن، حملت من كان من عناصره عالقاً في دوما بمن فيهم أسرى لدى جيش الإسلام، ومعهم خرج عدد كبير من الأطباء والنشطاء كما أشرت سابقاً.

كرامتك محفوظة حتى الباص
في المراحل الأخيرة، بات واضحاً أن التفاوض الذي يجري في مخيم الوافدين يدور للتغطية على أمر آخر، فقد أصبح مصير الغوطة، وخاصة بعد بدء تهجير القطاع الأوسط وقبله حرستا، واضحاً كالشمس، ولكن جيش الإسلام كان يماطل. في الأسبوع الأخير قبل الاتفاق النهائي، أعلنت عدة مواقع تتبع النظام الوصول لاتفاق مع جيش الإسلام، الذي كان ينفي الأمر. ومحلياً، تم تداول أن جيش الإسلام يحاول إخراج ما استطاع من مدنيين، وأنه سيقلب الطاولة ويشن هجوماً مضاداً بعدها باعتبار أن الخسائر ستكون أخف. لم تجد هذه الرواية آذاناً صاغية، خاصة أن جيش الإسلام عرقل خروج عدة نشطاء، فيما دفع غيرَهم للخروج، حسب حاجته لبقاء هؤلاء وترحيل أولئك، وذلك عندما غادرت مجموعة من المدنيين ضمن اتفاقية الجرحى. ما كنا نعرفه وقتها فقط هو أن ما يؤخر موافقة جيش الإسلام على القبول باتفاق يشمل خروجه أمر واحد فقط هو الوجهة، إذ لا يوجد وجهة تستقبله مع السمعة التي كونها خلال سنوات، بينما فتحت كافة المناطق خارج سيطرة النظام ذراعيها لمدنيي الغوطة.

تلقى عدة نشطاء رسالة شفهية تهديدية من جيش الإسلام تقول: «كرامتك محفوظة حتى الباص»، لإعلامهم أن عليهم المغادرة وأنه ليس من المقبول بقاؤهم، وبالمقابل اعتقل اثنين من أعضاء التكتل المدني لمنعهم من الخروج، وكان الخروج حصراً عبر التسجيل في مكاتب جيش الإسلام في قوافل الجرحى التي خرجت 2 و3 و5 نيسان 2018. لم يمكن ممكناً إلا أخذ هذا التهديد على محمل الجد، خاصة مع تداول الأخبارعن اغتيال محمد الأجوة النائب السابق لزهران مع شقيقه فيما بدا أنه تصفية حسابات داخلية ضمن جيش الإسلام، كما أن جزءاً كبيراً من نشطاء الغوطة الذين يشكلون ثقلها المدني كانوا قد غادروا قبل أيام قليلة فقط مع قافلة الملحق باتفاقية فيلق الرحمن السابق ذكرها. كان جيش الإسلام قد رفض أن تدخل الباصات الملحقة بقافلة فيلق الرحمن إلى دوما، وأجبر من أرادوا الخروج فيها على المشي خارج المدينة للوصول إلى مخيم الوافدين.

جاء هذا التهديد في وقت كنا، نحن أصدقاء المخطوفين الأربعة منذ كانون أول (ديسمبر) 2013 رزان ووائل وسميرة وناظم، ننتظر خبراً عن مصيرهم، متمنّين خروجهم، وخاصة مع بدء جيش الإسلام بإطلاق سراح بعض أسراه، من ضمنهم على سبيل المثال أحمد طه (أبو صبحي) قائد جيش الأمة، الذي أطلق سراحه مسبقاً في شهر آذار. وكان أبو همام البويضاني قائد جيش الإسلام كان قد وعد كوادر مكتب التنمية المحلية ودعم المشاريع الصغيرة – الذين كانوا على تواصل طيلة هذه الفترة معه – بأنه «سيساعدهم في هذا الأمر»، ثم حين بدأ جيش الإسلام بالمغادرة لاحقاً أجابهم أن كافة المقرات قد أُحرقت، وأنه لا يوجد لديه أي أوراق.

غزوة الأركيلة:
لنترك المفاوضات والسياسة واجتماعات مجلس الأمن والخطابات الحماسية، ولننظر قليلاً إلى حياة الناس في الغوطة في تلك الأثناء. كانت حدود الجبهات قد انتقلت إلى مشارف مدنهم، وخسروا كل أراضيهم الزراعية، حتى أن بعضهم جلب جزءاً من المواشي لتعيش معهم في المدينة، وأذكر أن كثيرين تكلموا عن مواشٍ في الطرقات، أو في حدائق المدينة المحدودة جداً. عاشت العائلات أسابيع طويلة في أقبية مزدحمة، وحتى الولادات كانت تجري في هذه الأقبية ما لم تكن قيصرية، لأن الانتقال إلى المشافي قد يكون خطراً جداً. كانت ظروف سوء التغذية غير مسبوقة، بالإضافة إلى انتشار التيفوئيد والعديد من الأمراض. الطبخ بالحطب يجري داخل الأقبية. أما الاستحمام بماء ساخن، بل وحتى الاستحمام ذاته، فقد أصبح نادر التوفر لأغلب الناس.

كانت أي حركة قد تعني الإصابة، وربما الموت.

أمسيات أهل الغوطة التي كانوا يقضونها في الربيع في مزارع الغوطة، المليئة بمحاصيل ربيعية رائعة كالفول والبازلاء والجانرك، أصبحوا يقضونها في أقبية تنقسم إلى قسم للرجال وقسم للسيدات، ويجلسون للتفكير في مصيرهم القريب جداً، في موت محتّم قد يطالهم خلال أيام قليلة، مع أحاديث وأساطير عن قوات النمر الذي تدخل القرى فلا تترك فيها شيئاً حياً. هل يخرجون إلى مراكز الإيواء المؤقت في مناطق سيطرة النظام؟ هل ينتظرون اتفاقاً للخروج، رغم أنهم يسمعون عن الصمود لآخر قطرة دم؟ أحدهم روى لي أنه قرر الخروج إلى مراكز الإيواء، وكان يعيش في أحد الأقبية المخصصة كملاجئ بعد أن قُصف بيته واحترقت ممتلكاته وتمزقت ثيابه، ولم يجد حتى ثياباً ينزح بها مع إغلاق كل محلات المدينة بسبب القصف.

في كل هذه الظروف، وقعت حادثة رمزية بالغة الدلالة، وهي قدوم دورية مع عناصر مسلحة من أحد المكاتب الدعوية التابعة لجيش الإسلام في زيارة لأحد الأقبية التي تُستخدم كملاجئ؛ عرّفوا عن أنفسهم أنهم من الحسبة وأنهم يقومون بجولة لتفقد عدم وجود مخالفات في الأقبية من اختلاط وغيرها، ووجدوا أثناء زيارتهم أركيلة فقاموا بمصادرتها مستخدمين عبارة مشهورة جداً: «إن المخالفات الشرعية ومنها الدخان والأركيلة تؤخّر النصر»، وحسب تقدير سكان البناء فقد أتوا بناء على شكوى عن هذه المخالفة الشرعية وليس ضمن زيارة تفقدية.

أثناء كل هذا، وفي حين كانت الأراضي والمناطق تتساقط واحدة تلو الأخرى، ومع السمعة الوحشية الإجرامية السيئة جداً التي تملكها قوات النظام، والحكايات والتقارير والأخبار التي تنتشر عن كل منطقة يدخلونها، ينبغي أن نتخيل وضع الشخص المدني الذي لم يكن يصله شيء من كل المعلومات المتعلقة بالتفاوض. فعلياً، لم يكن لدى كل الأجسام التي انتخبها سابقاً أو التي قدمت له الخدمات، من مجالس محلية وإدارات سياسية، أي معلومة حقيقية ومؤكدة، بينما فتح النظام الأقنية لخروج المدنيين من الغوطة عبر ثلاثة معابر، وكان المعبر الوحيد المضبوط من قبل الهلال الأحمر قبل وبعد الخروج هو معبر مخيم الوافدين من دوما. ومع انقسام الغوطة، كانت باقي المعابر عبارة عن معابر موت، حيث كانت قوات النظام تستقبل المدنيين قبل وصولهم إلى الهلال الأحمر، وجرى توثيق كثير من الانتهاكات والاعتقالات والإتاوات على هذه المعابر، ثم كان يساق هؤلاء إلى مراكز إيواء مؤقتة أُعدت سريعاً وتفتقر لأبسط الشروط، بما فيها دورات المياه، بل تم الحديث عن وجود أربع دورات مياه فقط لعشرة آلاف شخص في أحد المراكز، عدا عن فصل النساء عن الرجال بشكل كامل، ومنع خروج أي من المهجرين أو المهجرات من هذه المراكز دون كفيل يملك عنواناً في مناطق سيطرة النظام. وعلى الرغم من كل هذه الظروف، خرج عشرات الآلاف من بلدات الغوطة، جلّهم من مدينة دوما، لأن أياً منهم لم يثق بأن خطابات النصر والصبر والرؤى التي يرويها قادة الفصائل تمتّ للواقع بأي صلة. 

هناك أسر كثيرة تفرقت لأن الرجال كانوا على قوائم المطلوبين للنظام فظلوا في الغوطة وأرسلوا زوجاتهم وأولادهم إلى مراكز الإيواء رغم كل هذا الواقع المرير، لأن التصريحات الوحيدة لجيش الإسلام كانت القتال حتى آخر قطرة دم، في حين تكشَّفَ لاحقاً أن ما كان يفاوض جيش الإسلام عليه هو الوجهة، وأنهم كانوا يعلمون أنهم مستسلمون لا محالة، إضافة إلى انتشار كثير من الأخبار عن وجود أقنية خفية بين جيش الإسلام والنظام. هكذا انتهت كثير من العائلات منقسمة بين رجال في الشمال السوري ونساء وأطفال في مراكز الإيواء في مناطق سيطرة النظام، بل إن وجود النساء والأطفال في دمشق كان في بعض الحالات دافعاً للرجال للبحث عن خلاص فردي من خلال تسوية أوضاعهم والقبول بالظرف الجديد والحاكم الجديد.

المصير المحتوم
بين توقيع الاتفاق في 31 آذار، وحتى ضربة الكيماوي في مساء 7 نيسان، والتي خرج بعدها جيش الإسلام من المدينة، ماطل الأخير لأسباب ليست واضحة بشكل كامل، ولكن كل التقديرات تقول إنه كان يفاوض على شكل الخروج ويبحث عن وجهة خروج أخرى. وأبعد من ذلك، تضاربت روايات جيش الإسلام التي رواها للمقربين منه، بين رواية تقول إن التفاوض شبه محسوم باتجاه التهجير وإن جيش الإسلام يفاوض على إخراج بعض سيارات لتحمل عائلات قادته ومشايخه (قيلَ لاحقاً إن السيارات لأموال القادة)، وأخرى تقول إن التفاوض بغرض مخادعة الروس لإخراج بعض المدنيين الراغبين بالخروج، ومن ثم «يحتفظ جيش الإسلام بالسلاح الثقيل ويجاهد في فسطاط المسلمين».

يروي أحد المهجرين في باصات الجرحى في الأسبوع الأول من نيسان أن ألكسندر زورين بنفسه صعد إلى الباص، وألقى نظرة ليجد أنه لا جرحى بين المهجرين بعكس الاتفاق الذي نص على إخراج الجرحى فقط، فعاد غاضباً واشتعلت دوما قصفاً في اليوم التالي السادس من نيسان.

استمر القصف لما يقارب 36 ساعة، كانت أحياء المدينة جميعها تحت النار بشتى صنوف الأسلحة حتى مساء 7 نيسان، حين قُصفت الأحياء المجاورة لمشفى دوما الميداني الجراحي قرب دوار الشهداء بالأسلحة الكيماوية، ما أسفر عن أكثر من 40 شهيداً وقرابة 500 مصاب. كانت البروباغندا والضغوطات على الشهود والتهديدات قد بدأت أصلاً قبل هذه الضربة، ولعدة مشافي وكوادر صحية في عدة بلدات في الغوطة، عبر رسائل من زورين أوصلها الدكتور سيف خبية، ومضمون التهديدات هو عدم التحدث عن أي ضربات كيماوية وإلا تحولت مشافيهم إلى رمال. وبالفعل أصدر المشفى بياناً بصيغة تحاول ألا تنفي، وإنما قالت بأن المشفى لا تملك القدرة على تأكيد سبب الإصابات لجملة أسباب منها عدم وصول الوفيات إلى المشفى أصلاً، ومنها الحاجة إلى لجنة مختصة. كان المشفى وقتها يعج بالمصابين وسكان الأحياء المجاورة الذين التجأوا إلى تحصينات المشفى من حميم القذائف.

في 8 نيسان، تم إعلان اتفاق نهائي مرة أخرى، ولكنه دخل فعلياً هذه المرة حيز التنفيذ بشكل سريع، وبدأت القوافل تخرج من مدينة دوما حاملة مقاتلي جيش الإسلام والمدنيين الراغبين بالخروج. 

خلال هذه المدة في الأسبوع الأول من نيسان تجاوز عدد الشهداء 120 شخصاً، وربما كان يمكن على الأقل تجنب هذا الرقم بقليل من الحكمة، وقليل من مشاركة صنع القرار والشفافية مع أهل المدينة. كما أن الضبابية والترويج لروسيا كضامن من قبل الوسطاء والمبادرات شجّع البعض على البقاء، خاصةً من قد يعرضهم الوجود في مناطق النظام لمخاطر، بما فيهم شهود الزور على ضربة الكيماوي الذين كان بإمكانهم الخروج عبر قوافل الإخلاء.

كان التلفزيون الحكومي السوري قد عرض مقابلة في 9 نيسان مع اثنين من عناصر الهلال الأحمر السوري-شعبة دوما ينفون فيه الهجوم الكيماوي. ورغم أن قوافل الإخلاء استمرت عدة أيام بعد هذه المقابلة، إلا أن عدداً كبيراً من الشهود على الهجوم الكيماوي من الكوادر الطبية والإغاثية اختاروا البقاء، مع أن عرض هذه المقابلة يوضح أنهم قد يكونون عرضة لاستخدام مماثل من قبل الإعلام الحكومي. وبالفعل، تم إجراء تواصلات واسعة مع عدد كبير من الشهود على الضربة الكيماوية لتهديدهم بسلامة أهلهم، وأُجبر عدد كبير على الظهور بشكل متكرر لنفي الضربة الكيماوية.

روسيا من أمامكم والنظام من ورائكم
حين اجتمعنا كمجموعة الناشطات والنشطاء الممثلين للتكتل المدني في الغوطة مع مجموعة من الدبلوماسيين الغربيين في اسطنبول في 12 آذار 2018، سلمناهم رسالة من فعاليات الغوطة تطالب بوجود المدنيين في المفاوضات، وكان الدبلوماسيون يتجنبون إعطاء أي وعود ويميلون لتقديم نصائح بالضغط من خلال مجلس الأمن، أو العمل على الشق الإنساني. وفي الحقيقة، لم يكونوا يملكون إجابات، فدولهم اتخذت القرار بعدم التدخل بما يتجاوز الأقنية المعتادة من خلال مجلس الأمن، ولا حتى على سبيل فرض وجود ممثلين عن المدنيين في المفاوضات، باعتبار أن الملف بشكل مطلق تحت يد الجانب الروسي. أذكر وقتها أننا قلنا لهم إن بين الحضور ثلاث دول هي الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، وهي من أهم الدول التي تدعم برامج الحوكمة والمجالس المحلية في سوريا: لماذا دعمتم المجالس المحلية وأجهزة الحوكمة المعارضة في سوريا لسنوات؟ لحفر بئر أو تشغيل فرن؟ يستطيع أي متعهد فعل ذلك؟ أليس من المفروض أن تكون هذه الأجسام صلة الوصل مع المجتمع؟ رد أحدهم بسؤال إن كانت الغوطة تستطيع الصمود لشهرين، وشعرنا أن هناك مدة محددة لاتفاقية جرت في الخفاء سُمح فيها للأسد باستعمال ما يريد للقضاء على الغوطة.

أما تركيا فقد كانت منشغلة بعمليتها العسكرية لبسط سيطرتها على عفرين، ولم يكن لديها أية نية لإظهار أكثر من التعاطف إنسانياً، حتى أن استقبال الفصائل لاحقا على أراضٍ سورية تحت سيطرتها كان موضع نقاش وتفاوض، وخاصة مع سمعة جيش الإسلام الإقصائية السيئة لأبعد الحدود. اكتفت تركيا بالمراقبة وإطلاق تصريحات، مثل تعاطف الرئيس أردوغان مع أطفال الغوطة، وانتظرت المهجرين ليكون جزء منهم سكاناً جدداً من العرب السنّة في المناطق التي خرج منها الكرد من عفرين، لتستخدم المدنيين في كلتا البقعتين مرتين. والمفارقة الكبرى أن هذا الوضع المعقد جعلَ حتى خصوم جيش الإسلام من أهالي دوما يستخدمون أقنيتهم وعلاقاتهم للضغط باتجاه قبول جيش الإسلام في مناطق السيطرة التركية، ذلك لأن مصير المدنيين في المدينة مرتبط بمصيره. هنا أصبح دخول مناطق السيطرة التركية مطلباً للفارين من بطش النظام يحمله أقرباؤهم في تركيا، بغض النظر عن موقفهم من جيش الإسلام وموقفهم من العملية العسكرية التركية.

أما الأمم المتحدة فهي حكاية أخرى. كان مكتب المبعوث الخاص يُظهر العجز عن التدخل في المفاوضات، على الرغم من وجود ممثلة لمكتبه في كافة الجلسات التي كانت تُجرى في مخيم الوافدين بين زورين وحويجة ووفد التفاوض المكوَّن من جيش الإسلام واللجنة المدنية، كما أن المنسق الإقليمي للأمم المتحدة وجَّهنا حين اجتمعنا معه كممثلين عن التكتل المدني في غازي عنتاب التركية بأن هذا ليس اختصاصه، وقال لنا: «تكلموا مع علي»، والمقصود هنا علي الزعتري، ممثل الأمم المتحدة المقيم في دمشق. كان الزعتري قد دخل سابقاً ضمن قافلة مساعدات في 5 آذار، والتقى مجموعة من النشطاء والفعاليات في الغوطة الشرقية من ضمنهم مجلس المحافظة ومنظمات مجتمع مدني. ومن أبرز ما قاله الزعتري خلال اللقاء أنه لا يعرف عن وجود أي فعاليات مدنية في الغوطة، وأنه لا يسمع إلا صوت العسكر، كما أن الزعتري خاطب أحد المدنيين الموجودين في المكان، والذين عبروا عن مخاوفهم من التهجير، وقال له: «لن يهجّرك أحد من أرضك». يومها اتصل الجانب الروسي مع الزعتري وأعطاه مهلة ساعة واحدة للخروج. خرج الزعتري مع الوفد بشكل مفاجئ قبل انقضاء الساعة، على الرغم من وجود 9 شاحنات من أصل 46 دون تفريغ، وترك سائقي الشاحنات ليخرجوا لاحقاً. من المفارقات أن ممثلة اليونيسف في هذه القافلة قالت لمكتب منظمة حراس الطفولة أنها لم تعلم بوجودهم، فأجابها مكتب المنظمة أن يونيسيف شركاء مع حراس في عدة مشاريع، فكيف لا يعلمون بوجودهم؟

على صعيد آخر، روّجَ عرابو المصالحات المحلية لها بوصفها الحل الأمثل باعتبار أن روسيا هي الضامن لها. وربما المصالحات كانت الحل الوحيد الذي يمكن أن يقبل به الجانب الروسي، لكنهم استطاعوا أن يجعلوها مطلباً للغوطة بدل أن يكون مطلباً للنظام، أي جعلوا الوفد المفاوض باسم دوما يطالب بضمان الروسي الذي يقصفهم، وروجوا للجيش الروسي وجنرالاته وكأنهم طرف يمكن الوثوق به، وليس خصماً يقصف أحياء الغوطة ومشافيها ومدارسها ويقتل أبناءها. وطبعاً، مع السمعة الإجرامية للجيش السوري وأجهزة النظام الأمنية، كان المدنيون يجدون في الشرطة العسكرية الروسية والكتيبة الشيشانية الطرف الأقل سوءاً.

كما أن شبكات التجار التي فُرضت على الغوطة نتيجة الحصار، وعلى رأسها المنفوش، بالإضافة لبعض الشخصيات التي تملك علاقات ممتازة مع الأجهزة الأمنية للنظام، استطاعت أن تشكل من خلال علاقاتها ضمن الغوطة – وذلك برأي كثيرين من أبناء الغوطة – حصان طروادة الذي شكَّلَ تياراً مضاداً يطالب بدخول قوات النظام وتسريع عملية التفاوض، ويحفز الناس على التظاهر ضد الفصائل وعلى البقاء في الغوطة، بالإضافة إلى دوره المسبق في التشبيك ونقل المعلومات. ولم يكن مستغرباً أبداً أن يلقى هذا التيار المضادّ آذاناً صاغية تحت كل الضغط الذي كان يعيشه المدنيون.

على الطرف الآخر، كان النظام بكل تأكيد لا يأبه لأي نتائج أو خسائر بشرية مقابل تحقيق انتصاراته العسكرية، بما فيه مصير مخطوفي عدرا العمالية المحتجزين لدى جيش الإسلام، ومنهم من كانوا ضمن قواته، فلم يكن ذلك أولوية في تفاوضه مع جيش الإسلام. لاحقاً، تجمَّعَ أهالي مخطوفي عدرا في التاسع من نيسان في صالة الفيحاء الرياضية، مطالبين بمعرفة مصير أبنائهم بعد تسليم عدد أقلّ من المتوقع. 

ساهمت كل هذه المعطيات في ضبابية الصورة أمام المدنيين، واستطاع أصحاب السلاح فرض صوتهم على اتفاقيات الغوطة. كان العسكر المعارضون إما حمقى في حال كانوا صادقين في خطابات الصمود في 2 كم مربع من الأبنية المدمرة أمام آلة تدمير تملك شهية قتل عالية جداً، أو أنهم كانوا بالفعل لا يمانعون أن تُزهق بضع مئات من أرواح المدنيين مقابل تحسين شروط التفاوض على خروجهم. لقد أصبح الجيش الروسي، الذي كان يقصفهم ويقصف الغوطة كلها وسائر المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2015، هو الضامن والملجأ الآمن كما روجت له المصالحات والمبادرات، بدل أن يكون الخصم الذي نفاوضه بضمانات من جهات محايدة. في نهاية المطاف، ترك الجميع الملف لروسيا بعد الترويج لها كضامن، والحقيقة أنه ما كان للنتيجة النهائية أن تتغير لولا هذا الترويج الجاري عبر مبادرات عدة. ما كان يمكن أن يتغير هو خيارات كثير من المدنيين وقراراتهم، لا بل ومصائرهم. وبالنتيجة، ما حصل كان تنفيذاً لخيارات ألكسندر زورين وكنانة حويجة وديب زيتون.

كان تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان قد اعتبر الحملة الأخيرة على الغوطة هي الأكثر وحشية على كامل الجغرافيا السورية منذ بدء الثورة، وهي فعلاً مسحت أحياء كبيرة من الغوطة من الوجود. ففي الفترة الممتدة من 18 شباط (فبراير) 2018 وحتى خروج آخر قوافل التهجير في 15 نيسان (أبريل)، أي خلال أقل من شهرين، قُتَِل 1,843 مدنياً، بينهم 317 طفلاً و15 من الكوادر الطبية و12 من كوادر الدفاع المدني، وارتكبت قوات النظام والقوات الروسية ما لا يقل عن 68 مجزرة، وما لا يقل عن 61 هجوماً على مراكز حيويّة مدنيّة، وقُصفت المرافق الطبية أكثر من 28 مرة، واستخدمت الأسلحة الكيميائية 9 مرات على الأقل، وهُجِّر 151,000 شخص من أراضيهم. هؤلاء جميعاً يستحقون الحقيقة التي لا تزال بعض فصولها غائبة.

يستطيع الجميع أن يقولوا إنهم لم يكونوا سبباً في النتيجة التي حصلت، كما يستطيع أي طرف أن يتّهم باقي الأطراف أنهم كانوا سبباً رئيسياً في الكارثة الإنسانية والسياسية التي حصلت، ولكن جميع الوقائع السابقة تقول إن الغوطة كانت أقوى من أن يهزمها أو يسلّمها وسيط أو فصيل أو لجنة أو تخاذل أو حصار أو تجّار أو ضفادع أو انقسام، أو حتى السلاح الكيماوي؛ لقد اجتمع كل هؤلاء حتى استطاعوا إلحاق الهزيمة بها.

المصدر: الجمهورية