أعلن “مجلس محافظة دمشق”، في 26 أذار/مارس، عن المخطط التنظيمي لمدينة “باسيليا” جنوبي المتحلق الجنوبي، والممتدة إلى القدم والعسالي وشارع الثلاثين التي ما زالت تحت سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” جنوبي دمشق. و”باسيليا” تعني بالسريانية، بحسب مجلس المحافظة، “الجنة”. وهذا هو المخطط التنظيمي الثاني الذي يعلنه “مجلس محافظة دمشق” بعد مخطط مدينة “ماروتا” التي تعني بالسريانية “الوطن” أو “السيادة”. “ماروتا” و”باسيليا” هما مخططان لمنطقتين تنظيميتين في دمشق، كان المرسوم الرئاسي رقم 66 للعام 2012 قد أطلق العنان لهما.
“المدن” التقت أبو سمير، أحد سكان كفرسوسة، الذي شمله مخطط “ماروتا”، وقال: “في الوقت الذي ينتشر الدمار والخراب في البلاد، وتخرج الناس من منازلها بسبب المعارك، يأتي إلينا مرسوم لإخراج الناس الآمنين من بيوتهم”، ويعتبر أبو سمير أن هذا المرسوم “كان بمثابة إعلان حرب على سكان هذه المنطقة”.
أبو سمير الذي يقطن الآن في الجسر الأبيض، حيث اجتمعت عائلته المكونة من 4 أشخاص مع عائلة أخيه، بعدما اجبر على مغادرة منزله في كفرسوسة، وعجز عن استئجار منزل جديد في العاصمة، بسبب ارتفاع قيمة الأجارات، وانخفاض قيمة تعويض بدل الإيجار الذي يقدمه “مجلس المحافظة”.
وبحسب أبو سمير: “المزعج في الأمر عدم وجود رؤية واضحة للحل، قالوا إن هنالك سكناً بديلاً، ولن نخرج قبل تأمينه. لكن إلى الآن، لم يتم تأمين السكن البديل، وبدل الايجار زهيد جداً. قدمنا اعتراضاً للمحافظة ويتم الآن النقاش حول تعويضناً بزيادة أسهمنا في البيوت عند انتهاء المشروع. لكن هذا كلام يمكن أن تأخذه الرياح في أي وقت”.
المشروع بحسب ما تروج له شركة “دمشق شام القابضة”، المنبثقة عن “مجلس محافظة دمشق”، يمتد على منطقتين؛ الأولى جنوب شرقي المزة؛ من كفرسوسة خلف الرازي، وقد بدأ العمل بها قبل عامين، وتضم بساتين الصبار والمنطقة خلف السفارة الإيرانية وخلف مشفى الرازي لإنشاء مدينة “ماروتا”، في حين تمتد المنطقة الثانية من الليوان إلى القدم إلى حدود مدينة داريا، لانشاء “باسيليا”.
مساحة “ماروتا” بحسب المخطط التنظيمي تبلغ مليوني متر مربع، وستضم 12 ألف شقة سكنية، موزعة على 168 برج، يتراوح كل منها بين 11 والـ22 طابقاً. وسينتقل المركز الحكومي إلى منطقة التنظيم، عبر إحداث مبانٍ لمجلس الشعب هناك، بالإضافة إلى وجود مبنى رئاسة الوزراء والخارجية سلفاً في المنطقة. كما ستقام في المنطقة 17 مؤسسة تربوية، وأربع محطات وقود، وثلاثة جوامع، وكنيسة، لـ”ضمان صحة التوزيع الديموغرافي للسكان على مختلف عقائدهم”.
في حين تبلغ مساحة “باسيليا سيتي” تسعة ملايين متر مربع، وعدد عقاراتها أربعة آلاف.
وقد أقر مجلس الشعب، مؤخراً، تعديل المرسوم التشريعي رقم 66 للعام 2012، لجهة جواز إحداث مناطق تنظيمية في المحافظات كافة، وذلك بناء على اقتراح من وزارة الإدارة المحلية والبيئة، ما يعني إمكانية هدم البيوت وترحيل السكان، في أي منطقة سورية.
الرواية الرسمية عن “ماروتا”، يعاد بثها يومياً في وسائل إعلام النظام، بالإضافة إلى عقد محاضرات للتعريف بالمشروع، ورسم مجسمات ثلاثية الأبعاد له، فيما تصفه محافظة دمشق، بمشروع إبراز وجه دمشق الحديث.
المشروع الذي لم تظهر منه بعد إلا المجسمات ثلاثية الأبعاد، يعكس في الواقع إخلاءً لتلك المناطق من سكانها، وهدماً لبيوتها، ريثما يتم إنجاز المشروع، وفق وعود محافظة دمشق.
وبحسب الشهادات التي حصلت عليها “المدن” فإن فئة قليلة من السكان الأصليين استفادت من المشروع. أم توفيق، 53 عاماً، التي تسكن الآن في حي المهاجرين بعدما أخلت منزلها في بساتين المزة، تقدر نسبة السكان الذين استفادوا من المرسوم 66 بحوالي 5 بالمئة، من الميسورين القادرين على تأمين بدائل للسكن، ويستطيعون تحمل نفقة الانتقال إلى مكان آخر للعيش، ريثما يتم انجاز المشروع. وبحسب أم توفيق: “أغلب السكان قاموا ببيع أسهمهم نتيجة عجزهم لأن بدل الإيجار لا يكفيهم وقاموا بشراء بيوت في الضواحي البعيدة في كل من قطنا وجديدة عرطوز”.
أحد المحامين المختصين في المجال العقاري، قال لـ”المدن”، الخطأ الأكبر، هو في العقود المبرمة بين الأهالي والجهة المنفذة، التي تعطي الأهالي صفة شاغلي العقار، بعد تنفيذه، لا مالكين له. وبالتالي، فهي تُجرّدهم من حق الملكية بعد إعمار هذه المنطقة، ليصبحوا مقيمين في بيوتهم الجديدة، لا مالكين لها.
الثغرة الأولى كانت في “التخمين”، إذ تمّ تشكيل “لجنة للتخمين” بحسب “المرسوم 66″، وترأسها القاضي برتبة مستشار بشار عربي، على أن يُعين فيها خبيرين في التقييم العقاري تسميهما وزارة الإسكان، وخبيرين ممثلين للأهالي. وزارة الإسكان أسمت ممثليها، وكذلك ممثلي الأهالي من أصحاب المكاتب العقارية الذين لا ينتمون للمنطقة، ولا علاقة لهم بها، ليقوما بإقناع الأهالي بالحصص، وبيع أسهمهم، وفق المخطط التنظيمي.
الثغرة الثانية الإضافية في المرسوم، بحسب المحامي المختص، هي منع بدل الإيجار عن البيوت غير المسكونة. فبحسب المرسوم، الوحدة المُغلقة تعتبر غير شاغلة، أي غير مستحقة، ولهذا السبب لن يدفع بدل الإيجار عنها.
النظام أيضاً سعى إلى التمييز بين القاطنين في تلك المنطقة. الفصل الثالث من المرسوم 66، نصّ صراحة على أن المستفيدين في الدرجة الأولى من السكن البديل الذي ستوفره لهم الجهة المنفذة، هم “أسر الشهداء والجرحى”.
الثغرة الرابعة هي التكلفة، فبحسب المرسوم 66، تُنظّم عقود بالتخصص والإفراغ، وتحسب تكلفة البناء فقط دون حساب قيمة الأرض، وفي هذه الحالة تعد قيمة الأرض صفرية، وهذه ميزة أعطاها المرسوم التشريعي للمواطنين الشاغلين لهذه المنطقة، ويتم التسديد بموجب أقساط لمدة 25 سنة، يمكن اختصارها في حال رغبة صاحب العلاقة بالتسديد خلال مدة أقل ليتمكن من استكمال إجراءات “فراغ مسكنه”.
المطلع على العقود التي أبرمتها وزارة الإسكان ومحافظة دمشق مع المالكين، يلاحظ عدم تحديد أية مدة زمنية لانتهاء المشروع، ولا تستوجب شروطاً جزائية على التأخير، وهذا ما يُعطي الشركات المستثمرة هامشاً كبيراً للتملص من التزاماتها، ما يمكن أن يجعل من “ماروتا” و”باسيليا”، مثل “مجمع يلبغا” في قلب دمشق، المثال السوري المحتذى في المماطلة والتسويف.
الثغرة الخامسة، تتعلق بأصحاب البيوت المغادرين، فقد أعلنت المحافظة أنه يجب على هؤلاء أن يوكلوا أشخاصاً بوكالات مصدقة من الخارجية السورية، وبالتالي يجب أن يحصلوا على “موافقة امنية”، وإلا سيتم بيع البيت “الجديد” بالمزاد العلني.
العقدة في المرسوم 66 كانت من نصيب أهالي حي الإخلاص، فالحي مستملك منذ العام 1985 وفق المرسوم 35، لصالح انشاء مبنى “مجلس الشعب” الجديد. المرسوم 66 لم يقم بتعويض أهالي حي الإخلاص.
أبو فراس، 42 عاماً، القاطن في جرمانا، من سكان حي الاخلاص الأصليين، قال لـ”المدن”: ” منذ ذلك الحين وأهالي الحي يعلنون اعتراضهم، إذ قاموا بمراجعة المحافظة ووزارة الداخلية ورئاسة الحكومة على اختلاف رؤسائها، إضافة إلى توقيع العرائض، وقسم منهم قاموا بحضور جلسات مجلس الشعب لايصال صوتهم ولم يتلقوا غير الوعود التي لا تفيد بشيء”.
في العام 1997، بعد عقد جلسة لمجلس الشعب تم توجيه رسالة من المجلس إلى رئيس الوزراء آنذاك محمود الزعبي، وتتضمن إعادة النظر بأسعار الأراضي، وتقديم سبب حقيقي لأهمية نقل مجلس الشعب إلى تلك المنطقة، وضرورة إنشاء سكن للأشخاص المتضررين على أطراف تلك المنطقة، لكن مجلس الوزراء لم يقم بالرد على كتاب مجلس الشعب انذاك.
في العام 2001 تم نقل ملكية الأراضي تلك إلى مجلس الشعب، بموجب القرار رقم 2973 الصادر عن المصالح العقارية بدمشق بتاريخ 17 تشرين الأول/أكتوبر 2001. وبعد خمس سنوات أصدر مجلس الشعب الكتاب رقم 1868/ص.د إلى محافظ مدينة دمشق، والذي يتضمن عدول مجلس الشعب عن نقل مقره إلى تلك المنطقة. وبدلاً من إعادة الحق إلى أصحابه، تم نقل تلك الأراضي إلى ملكية محافظة دمشق، علماً أنه بالقانون لا يحق لمجلس الشعب نقل تلك الأراضي لأنها لا تعود له بالأصل.
المحامي المختص بالشؤون العقارية قال لـ”المدن” إن استملاك المحافظة أراضي حي الإخلاص غير قانوني، لأنه بحسب القانون، فإن استملاك الإخلاص يعتبر لاغياً لأن قانون الاستملاك رقم 35 الصادر عام 1985 قد ألغي بناء على تخلي مجلس الشعب عن المنطقة المستملكة ونقل ملكيتها إلى المحافظة.
أبو عماد من حي الاخلاص، الذي أراد فراغ عقاره، فوجئ بإشارة على صحيفته العقارية بمنع إجراء أي معاملة لخضوعه إلى منطقة تنظيم المزة، رغم أن عقاره خاضع للمرسوم 35 عام 1985 ولم يعوض من المرسوم 66.
قوات النظام كانت قد شنت حملة عسكرية في عام 2012 على حي الإخلاص في المزة وهدمت البيوت وهجّرت الأهالي الذين كان جزء منهم قد شارك في انطلاق احتجاجات عام 2011.
عند زيارة بساتين الرازي، تتلاشى جميع الأبنية المفترضة التي تُبثّ صورها ثلاثية الأبعاد على الشاشات، وتزول كل الخدمات الحديثة التي يروج لها النظام، وما يمكن للعين أن تلحظه هو ركام المنازل المهجورة، وأكوام الأنقاض.
المصدر: جريدة المدن الالكترونية (اضغط هنا)