عندما يفكر السوريون في مستقبل بلدهم، فإن غالبيتهم لا ترى في المستقبل إلا كياناً سورياً واحداً. ويتوزع أصحاب هذه الرؤية على مختلف مكونات الجماعة الوطنية السورية، فتجد لها أنصاراً في أوساط المجموعات العرقية والدينية والمذهبية، ويستند أغلب هؤلاء في رؤيتهم إلى الماضي القريب، ومنه عام 2011 عندما كانت سوريا كياناً واحداً بسلطة واحدة وعلم واحد، قبل أن تنفجر مع بدء حرب النظام على المطالبين بالتغيير واستبدال مستقبلات أولادهم وبلادهم نحو مزيد من الحرية والعدالة والمساواة لكل السوريين، وقادت الحرب إلى تصاعد العنف السوري، لا سيما بعد التدخلات الإقليمية والدولية، خصوصاً التي شجعت على الحرب مباشرة أو بطريقة غير مباشرة.
ولا يشكل تعوّد السوريين على الانتماء إلى كيان واحد وعلم واحد وسلطة واحدة سبباً وحيداً في ذهاب أكثرهم نحو كيان واحد في المستقبل؛ بل هو بين أسباب أخرى؛ منها التاريخ والمصالح والثقافة؛ بما فيها الثقافة السياسية وتعبيراتها التنظيمية، التي تتبنى الرؤية ذاتها، وإن ألحقتها بتفاصيل، فإن الأخيرة لا تحمل دلالات مناقضة لفكرة الكيان الواحد، وقد سارت الأنظمة السياسية التي حكمت البلاد بعد الاستقلال على الخط ذاته رغم ما بينها من اختلافات، حيث شددت على فكرة الكيان الواحد.
ورغم أن نظام البعث في ظل حكم الأسد؛ الأب والابن، لم يخرج نظرياً عن فكرة الكيان الواحد، فإنه أعطاه صفة ترتبط به، فأطلق على سوريا اسم «سوريا الأسد»، وخلق فيها نظاماً استبدادياً يعتمد أقصى درجات القوة والإخضاع في التعامل مع السوريين، وأدار البلاد وفق سياسة طائفية، تتحكم في مكونات الجماعة الوطنية، وتدير الصراعات معها وبينها بما يحافظ على النظام، ويحولها عاملاً مفجراً في حال التمرد عليه، وهي السياسة التي أكدتها تطورات الصراع السوري في السنوات العشر الماضية، لا سيما في أمرين كان لهما تأثير حاسم؛ أولهما عسكرة الصراع، والدفع بالجميع إلى ساحات القتال، وثانيهما تعميق العصبيات الطائفية والدينية والقومية، ودفع توترها إلى أقصى الحدود.
وللحق؛ فإن أطرافاً كثيرة؛ ومن منطلقات متعددة ومتناقضة أحياناً، تناغمت وتفاعلت مع سياسات النظام، فصبت في صالح تلك السياسة، خصوصاً ما قام به حلفاء الأسد من الروس والإيرانيين والميليشيات التي استجرّوها للقتال في سوريا، وكذلك حال أغلب ما قامت به قوى إقليمية ودولية محسوبة في جملة أصدقاء الشعب السوري؛ منها الولايات المتحدة وتركيا، ثم جماعات التطرف والإرهاب ومنها «داعش» و«النصرة»، والتشكيلات المسلحة ذات التوجهات الإسلامية المحسوبة على المعارضة.
وكان في نتائج ما جرى أن تكرست في سوريا سلطات أمر واقع؛ أبرزها ثلاث؛ أولاها سلطة شمال شرقي سوريا، وتسيطر على أجزاء من محافظات الحسكة ودير الزور والرقة وحلب، وتقودها «قوات سوريا الديمقراطية (قسد)» ونواتها الأساسية «حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD)» الحائز الحماية والرعاية الأميركية.
والقوة الثانية في سلطات الأمر الواقع هي منطقة شمال غربي سوريا، وتشمل أجزاءً من محافظات حلب والرقة وإدلب واللاذقية، وتديرها القوات التركية مباشرة في مناطق انتشارها، أو بطريقة غير مباشرة سواء عبر حلفائها التابعين لـ«الائتلاف الوطني» والحكومة السورية المؤقتة والتشكيلات المسلحة المحسوبة على المعارضة، وعبر «هيئة تحرير الشام» الوجه العلني لـ«جبهة النصرة» وحكومة الإنقاذ التابعة لها.
ثالث سلطات الأمر الواقع سلطة الأسد، ويمتد حيز سيطرتها شاملاً جنوب ووسط البلاد إلى حلب؛ بما فيه الساحل. وسيطرة نظام الأسد في هذه المنطقة محدودة، حيث يتشارك فيها الروس والإيرانيون والميليشيات الشيعية التابعة لإيران.
إن الملامح الأساسية لسلطات الأمر الواقع تبدو في اعتمادها الكلي على حليف خارجي يحفظ وجودها، ويقدم لها أشكالاً متعددة من الدعم؛ بما فيه قوات مسلحة تتبع الدولة الداعمة، وتعتمد في الداخل على ميليشيات وأجهزة محلية لها ارتباط عميق ومعلن بالوجود الأجنبي. وتعاني السلطات الثلاث من ضعف سيطرتها بصورة أو بأخرى على مناطقها، مما يسمح بظهور ونشاطات «داعش» في كل المناطق حسب ما تعلنه سلطاتها بين وقت وآخر. كما يعاني سكان المناطق الثلاث من تدهور الحالة الأمنية، وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وسوء الإدارة والفساد.
إن الوقائع التي تعيش سلطات الأمر الواقع في ظلها تؤكد استحالة تحول أي منها إلى كيان سياسي، وهو أمر ينطبق بصورة بديهية على منطقتي شرق الفرات وشمال غربي سوريا، بل إن الداعمين الأميركيين والأتراك يراهنون أكثر على تسوية باتجاه كيان سوري واحد، أكثر مما يراهنون؛ من موقعين مختلفين، على كيانين وثيقَي الصلة بهما في شمال سوريا.
ولا يشكل نظام الأسد بوضعه الحالي حالة مختلفة كثيراً عن حالتي شرق الفرات وشمال غربي سوريا، رغم استناده إلى ثلاث نقاط تساعد ليكون الكيان السوري المأمول، وهي: الإرث الموروث للكيان السوري، وما يبذله الروس من جهود استثنائية لإعادة تطبيع علاقاته الإقليمية والدولية، والاعتراف الدولي الذي لا يزال يحتفظ به في الهيئات الدولية. لكن هذه النقاط غير كافية لتجاوز ما صارت إليه أوضاع النظام من تدهور، وما تسببت فيه سياساته وممارساته من جرائم لا يمكن الإفلات منها.
إن الخصوصيات المحيطة بالقضية السورية، لا سيما بسلطات الأمر الواقع الحالية، تؤكد صعوبة تكريس كيانات سياسية بوصفه بين خيارات أو احتمالات الحل السوري، مما يجعل الأمور تتجه إلى كيان سوري واحد. ومما يدعم هذا الاحتمال أن القوى الإقليمية والدولية المتدخلة في سوريا تعارض فكرة كيانات جديدة في المنطقة، سواء أجاءت هذه الكيانات من تقسيم كيانات تعاني من صراع عنيف كما الحالة السورية، أم تعاني من أزمات بنيوية نتيجة تكوين جماعتها الوطنية وانقساماتها الحادة كما هو وضع لبنان والعراق. وقد يكون وضع إقليم كردستان العراق مثالاً لما هو عليه الرفض الإقليمي والدولي لانتقال الإقليم في استفتاء عام 2017 إلى دولة معلنة بعد سنوات طويلة من كونه دولة في الواقع، حيث جرى إفشال استفتاء عام 2017 ضمن تواطؤ شاركت فيه وقادته الولايات المتحدة، التي لطالما عدّها الأكراد حليفاً قوياً ومؤيداً لهم.
بقي أن نقول إن سلطات الأمر الواقع ستظل قائمة حتى حدوث توافق إقليمي – دولي على الحل في سوريا، عندها سيجد الفرقاء الصيغة الفضلى للدمج بين تلك السلطات، أو إقرار شكل تفاعلي بينها سيؤدي عبر فترة انتقالية إلى ولادة كيان سوري واحد وجديد، وهو، في كل الأحوال، لن يكون واحداً من سلطات الأمر الواقع الحالية، ولن يكون نظامَ الأسد أو شبيهاً به، فهذا فات أوانه.
المصدر: الشرق الأوسط