حاولت أسرة سورية مؤلّفة من خمسة أشخاص عبور الحدود التركية الواقعة في الجهة الغربية من البلاد. وسعى أفرادها إلى عبور الحدود البرية واجتياز الغابات من أجل الوصول إلى بلغاريا. وحاولوا أيضاً استخدام عوّامات خشبية متداعية للوصول إلى اليونان عن طريق البحر.
هذه الأسرة التي أقامت في تركيا على مدى خمسة أعوام، دفعت آلافاً وربّما عشرات آلاف الدولارات للمهرّبين، الذين قام بعضهم بالاحتيال على أفرادها وسلبهم أموالهم من دون مساعدتهم فعلاً على العبور. وبعدما كادوا أن يغرقوا في عرض البحر، تعرّضوا للاحتجاز مرّة أخرى لعدد من الأيام في زنزانة احتجاز بدائية مع قليل من الطعام أو مياه الاستخدام.
ولا يزال يوسف البالغ من العمر 55 عاماً، وزوجته سهيلة البالغة من العمر 43 عاماً، وأبناؤهما الثلاثة: وائل (20 عاما)ً وغاردينيا (18 عاماً) وكلارا (14 عاماً)، مصمّمين على الوصول إلى الغرب، سواء بالسبل المشروعة أو بالوسائل غير القانونية.
وهم ليسوا وحدهم. فبعد هبوط في أعدادهم طوال اعوام، ارتفع مجدّداً عدد المهاجرين الوافدين إلى اليونان، حيث توقّع ديبلوماسيّون وعاملون في مجال الإغاثة وصول أعداد أكبر منهم مع حلول الربيع المقبل عندما تصبح مياه البحر أقل تلاطماً.
ويقول ربّ الأسرة يوسف “لدي أملٌ واحد. أريد أن أجد حياةً أفضل لي ولأولادي. أريدهم أن يدرسوا وأن يحصلوا على تعليم أفضل”.
وفي الوقت نفسه، تعاظمت قوة شبكة المهرّبين الذين يقودون السوريّين والأفغان والباكستانيّين وغيرهم عبر تركيا في اتّجاه أوروبا الغربية، وصار بعضهم يتجرأ على عرض خدماته على “إنستغرام”.
وكتب أحد المهرّبين الذي يتّخذ من العاصمة الإيرانية طهران مقرّاً له، عبر حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي، “لا توجد أيّ مشكلة. فأنا قادر على توصيل أي شخص”. وأدرج أسعاره التي تصل إلى نحو 10 آلاف دولار عن كلّ شخص يريد الانتقال إلى اليونان.
وقال في مقابلة أجريت معه عبر الهاتف إن “الشرطة على جانبي الحدود تحت سيطرتنا. وفي حال كان المهاجرون جاهزين، يمكنني نقلهم في أي لحظة. هذا هو عملي منذ أبصرت النور. كانت هذه وظيفتي منذ نحو 14 عاماً، وهذا ما فعله والدي من قبلي”.
ولجأ ما لا يقل عن ثلاثة ملايين و700 ألف سوري إلى تركيا، فيما يستعد نحو مليون شخص آخرين للانتقال إلى الأراضي التركية، مع مواصلة روسيا ونظام بشّار الأسد قصف محافظة إدلب حيث تجمّع مئات الآلاف من المدنيّين على الحدود مع تركيا.
وفي المقابل، استقرّ هنا على الأراضي التركية نحو 400 ألف لاجئ من أفغانستان وإيران وأماكن مختلفة، وكلّهم يتوقون إلى حدّ ما، إلى التوجّه في نهاية المطاف نحو أوروبا الغربية.
وكانت منظّمات الإغاثة الدولية والديبلوماسيّين اشادوا بالحكومة التركية لاستيعابها الجزء الأكبر من الذين فرّوا من مناطق النزاع في سوريا. ومُنح قرابة 50 ألفاً منهم الجنسية التركية، أغلبهم من الذين لديهم خلفياتٍ تعليمية نخبوية، أو من الذين حقّقوا إنجازاتٍ تجارية أو مهنية كبيرة.
وفي مدن مثل كِليس أو ريحانلي (الريحانية)، البلدتين الحدوديّتين حيث تضاهي أعداد السوريين عدد السكّان الأتراك أو حتى تتجاوزهم، أُرسيت برامج تكامل ومصالحة مبتكرة لتعزيز الوئام.
لكن كثيراً من الاتراك لم يعودوا يرحبون باللاجئين السوريّين الذين أقاموا مدة طويلة. وصار هؤلاء النازحين عبئاً سياسياً على حزب “العدالة والتنمية” الغالب. وبدأت تتناهى إلى كلٌّ من الرئيس التركي، رجب طيّب أردوغان، وخصومه العلمانيين والليبراليين والقوميّين أصواتاً من قواعدهم السياسية تطالبهم بحضّ السوريّين على العودة إلى ديارهم.
ولاحظ ديبلوماسي غربي أن “ما تغيّر في تركيا هو الموقف من اللاجئين. فما كان يفترض أصلاً أن يكون وضعاً موقّتاً أصبح الآن دائماً”.
ويعتبر السوريون من جهتهم أن العداء متجذر اتجاههم. وعلى الرغم من امتنانهم للدولة التركية على السماح لهم بالفرار من الحرب، إلا أنهم يقولون إن الأتراك نادراً ما يحتضنون الأجانب. وتلفت إحدى الشابّات السوريّات، وهي طالبة جامعية في إزمير، إلى أن الركّاب الذين يستخدمون المترو معها، يرمقونها بنظرات استهجان عندما يرنّ هاتفها الخلوي وتلتقط المكالمة وتجيب على محدّثها باللغة العربية. وتقول “كلّهم ينظرون إليّ بارتياب”.
ويشكو السوريّون في تركيا من نقصٍ في التعاطف معهم وفي تفهّم ما عاشوه. فقد سأل طالب تركي زميلةً له في الصف عمرها 20 عاماً “ماذا تفعلين هنا في تركيا؟” فقامت بوصف ما حصل معها لجهة قتل نظام الأسد أقاربها ولا سيما منهم عمّها الذي كانت تحبّه كثيراً، إضافةً إلى القصف الذي كانت تتعرّض له الأحياء السكنية
لكن زميلها التركي لم يكترث. وتتذكّره وهو يقول لها “لو كانت هناك حرب في بلدي لكنت بقيتُ فيها وقاتلت من أجلها. أنتم تسرقون وظائفنا. وأنتِ تحلّين مكان طالب تركي”.
وعلى الرغم من أن السوريّين عاشوا في تركيا نحو تسعة أعوام، إلا أنهم يواجهون عيشاً محفوفاً بالمخاطر. فقد فرّ يوسف وأسرته من محافظة حلب السورية عندما غزت الحرب المدينة والريف المحيط بها. وظلّت إبنته الصغرى كلارا لأشهر عدّة، مصابةً بصدمة شديدة نتيجة
الصراع الذي لم تتحدّث عنه إلى أن أفلح المعالجون في شفائها نوعاً ما. وتقول والدتها سهيلة: “أدخلت إلى المستشفى لمدّة شهرين. ورفضت الخروج منه من دون أن يمسك بيدها أحدنا”.
وكان قد انتهى الأمر بالعائلة أولاً إلى لبنان، حيث كانت الحياة باهظة الثمن، قبل أن يقوم أفراد الأسرة بالانتقال إلى تركيا. ويعيشون في الوقت الراهن في شقّة مستأجرة داخل أزقة ضيّقة في حي بسمان الفقير على سفح تلةٍ في إزمير، على منحدر يفضي إلى قلعة كاديفيكالي القديمة.
وعلى الرغم من التعرّض لحادث سيّارة جسيم ترك الوالد يوسف في كثير من الأحيان غير قادر على المشي، إلا أنه يتمكّن من جمع بضع مئات من الدولارات شهرياً من طريق العمل في مطعم محلّي. ويشتغل كلّ من ولديه البالغين في مصانع نسيج، ويكسبان قرابة 100 دولار أسبوعياً.
ويأمل أفراد العائلة هذه كما معظم السوريّين الذين انتهى بهم المطاف في تركيا أن يكون البلد هذا منصتهم نحو أوروبا الغربية. فقد تقدّموا بطلبٍ إلى الأمم المتحدة لإعادة توطينهم. غير أنهم حاولوا كذلك التسلّل عبر الحدود التركية التي يسهل اختراقها.
وما إن قبضت عليهم السلطات التركية في البحر، حتى أعادتهم إلى الشاطئ واقتيدوا إلى منشأة احتجازٍ في ديكيلي تفتقر إلى طعامٍ كافٍ وأيضاً إلى المراحيض. ويتذكّر يوسف تلك المدة قائلاً “كنّا نتوسّلهم أن نتمكّن من تغيير ملابسنا. وإذا أردنا غسل أيدينا أو الوجه، لم يتوفر أي شيء لنا”.
وفي إحدى محاولات العبور، كاد الأب أن يغرق هو وزوجته وأولاده الثلاثة. وكانت التجربة مؤلمة إلى حد أن الإبنة الصغرى كلارا، لا تزال مرعوبةً من مشهد البحر في المدينة الساحلية التركية التي يعيشون فيها.
ويواصل أفراد هذه الأسرة استكشاف الشبكات القوية من المهرّبين والمزوّرين الذين يزعمون أنهم يستطيعون مساعدة الناس على بلوغ دول الغرب في مقابل تعرفة باهظة.
وقد عرض أحد المهربين أن يدفعوا مبلغ 4 آلاف دولار عن كلّ فرد كي ينقلهم إلى اليونان. وقال: “أؤمن لهم جواز سفر يمكّنهم من الانتقال بواسطته عبر تركيا”. ويسوّق هذا الشخص لنفسه كما مختلف المهرّبين الآخرين، على وسائل التواصل الاجتماعي. ويعد بأن “لا تسبّب لهم الشرطة أيّة متاعب”.
ويؤكّد آخر أنه يهرّب الناس عبر الحدود البلغارية على متن سيّارة مقابل مبلغ 8 آلاف يورو عن الفرد، أو لقاء مبلغ ألفين و500 يورو على متن قارب، وسيلة النقل التي لا ينصح بها كثيراً. ويقول “نعرف مسؤولين بلغاريّين يعملون معنا”. ويزعم مؤكّداً “نحن ننسّق معهم”، مضيفاً أنه يُخرج نحو عشرة أشخاص كلّ شهر.
هذا المواطن الأفغاني من كابل الذي يبلغ من العمر 24 عاماً، عمل مهرّباً لمدّة عامين، ويعتبر أن “القوارب خطيرة للغاية”، ويقول: “لدينا زوارق لكن الطقس بارد جدّاً، والإبحار فيها محفوف بمخاطر الآن”.
ويشير المدافعون عن حقوق المهاجرين إلى تدهور أوضاع النازحين في تركيا، ما دفع بعائلاتٍ وأفراد إلى القيام بمجازفاتٍ خطرة للوصول إلى أوروبا.
ويقول خالد البالغ من العمر 30 عاماً، وهو سوري من أصل فلسطيني وصل إلى تركيا قبل نحو أربعة أعوام: “حاولتُ العبور مرّاتٍ عدّة”. ويضيف: “لا أملك أية فرصة هنا”، مشيرًا إلى أن زوجته وطفله قد وصلا بالفعل إلى ألمانيا، لكنهما لا يستطيعان المجيء إلى تركيا لأن سلطاتها لا تسمح بجمع شمل الأسرة.
وعند القبض على أي متسلّل، يُنقل المهاجرون واللاجئون إلى مراكز اعتقال تزداد المعاملة فيها قساوةً، ولا يُسمح لهم أحياناً بالخروج إلى الهواء الطلق إلا 90 دقيقة فقط يومياً، وفق ما ذكره بعض النشطاء.
ويشير ديمان غولر، المحامي والناشط في مجال حقوق المهاجرين في إزمير إلى أن تلك الأماكن: “تشبه السجون. ولا نعرف حتى عدد الأشخاص داخلها”.
وحتى أولئك الذين يحصلون على وضع لاجئ في تركيا، غالباً ما تفتر عزيمتهم على البقاء، في وقت لا يسعهم الحصول على وظيفة مناسبة، أو الاندماج بشكل كامل في المجتمع التركي.
وقال المحامي التركي في اجتماع عُقد في مكاتب نقابة المحامين في إزمير: “إذا مُنح الناس وضع اللاجئين، يجب إعطاؤهم فرصة الحصول على الجنسية. وعلى السلطات أن تمنحهم مستقبلاً. وفي تركيا تتمثّل معظم المشاكل في هذا الجانب، فاللاجئون لا يرون أي مستقبل لهم هنا”.
المصدر: إندبندنت عربية