بحث
بحث

“الموافقة الأمنية”و”الإحصاء”:أدوات التطهير العرقي في دمشق


المدن – 

ليس بـ”التسوية” و”المصالحة” وحدهما تتم عمليات التغيير الديموغرافي والتطهير العرقي في سوريا. ففي دمشق الخاضعة لسيطرة النظام ومليشياته، التي لم تشهد الحرب، لا يحدث التطهير عبر المعارك والقصف والتشريد أو المنع من العودة، وإنما التحكم بأماكن سكن أهلها والمُهجّرين إليها.

فلم يعد مكان السكن وفقاً لرغبة المواطن، بل باتت الإقامة في أغلب أحياء دمشق بحاجة إلى “موافقة أمنية”. ولن يُعطى الشخص “الموافقة” حتى تُجرى عليه “دراسة أمنية”، تطال العائلة والأقارب من أبناء العمومة وغيرهم. وتتولى هذه المهام فروع المخابرات في دمشق؛ فكل قطاع أو مجموعة أحياء، تتبع أمنياً لفرع معين، يستقبل الطلبات عبر مكاتب تابعة له، ويتم استدعاء صاحب الطلب لاحقاً للتحقيق معه بخصوص كل شاردة وواردة في حياته.

“فرع الأربعين”، التابع لجهاز “أمن الدولة”، يعتبر من أصعب الفروع الأمنية في إعطاء “موافقات” السكن. ويمتد القطاع الذي يتحكم به “فرع الأربعين” من منطقة الجسر الأبيض إلى أبو رمانة وقسم من المالكي، ومنطقة المهاجرين. أي المنطقة الأمنية والتي تضمّ منازل كبار المسؤولين، فضلاً عن وجود “مستوطنة” شيعية في منطقة “زين العابدين” في حي المهاجرين، والتي أصبحت عبر سنوات الثورة مركزاً لمليشيات “حزب الله” السوري واللبناني، ومكاناً محصناً لا يدخله غريب إلا بعد “دراسات” أمنية مكثفة.

“الموافقة الأمنية” للسكن، بعدما كانت روتينية في بداية تنفيذ القرار الصادر عن إدارة “المخابرات العامة” منتصف العام 2014، أصبحت اليوم من المعجزات والمستحيلات، خاصة لأبناء المناطق المنكوبة، والمهجرين إلى دمشق، وأبناء المناطق التي يسيطر عليها تنظيم “الدولة الإسلامية”. والحصول على “موافقة” للسكن داخل دمشق، بات يُعتبر أشبه بالحلم لأولئك الذين صاروا مضطرّين للابتعاد باتجاه محيط العاصمة؛ كجرمانا وصحنايا وجديدة عرطوز والسومرية، التي تحتاج بدورها أيضاً لـ”موافقات” أمنية للسكن، لكنها أقل تعقيداً من أحياء دمشق المدينة.

والحاصل على “الموافقة الأمنية”، يجب أن يكون ملفّه خالياً من أي مشاكل أمنية، وغير مطلوب للتجنيد، وغير محكوم، وليس لديه أقرباء من الدرجة الأولى مطلوبين لأجهزة النظام. هذه هي الشروط ببساطة، إذا أراد أحدهم السكن في عمق العاصمة دمشق. ومن لا تنطبق عليه تلك الشروط، سيأتي طلبه بالرفض القاطع، وربما يتم تعميم إسمه لرفضه في مناطق أخرى، كما حصل مع أم ربيع التي داهمت منزلها قوة أمنية تابعة لـ”فرع الأربعين”، تحت ذريعة “المسح الاحصائي” و”التأكد من المستأجرين والغرباء عن المنطقة”، وبعد التحقق من هويتها تبين لهم أن زوج ابنتها هارب من التجنيد الإجباري، وقد خرج من سوريا بشكل غير شرعي، وأن لديها إبناً مقاتلاً في صفوف المعارضة المسلحة في الغوطة الشرقية. القوة الأمنية أمهلت أم ربيع 48 ساعة لإخلاء المنزل، وقامت بتعميم إسمها على كافة الفروع الأمنية لعدم إعطائها “موافقة” للسكن، لإنها تنتمي إلى لعائلة من “الإرهابيين المعاديين للوطن”. أم ربيع كانت قد حصلت على “موافقة” قبل ستة شهور من تلك الحادثة، وبعدما دفعت رشوة مالية وصلت إلى ربع مليون ليرة سورية.

أبو سامر، المُهجّر من ريف حماة إلى دمشق، روى لـ”المدن”، كيفية التحقيق معه أثناء تقديمه طلبه للحصول على “الموافقة الأمنية” في منطقة تتبع إدارياً لـ”فرع فلسطين”، وتركزت معظم الأسئلة على أبنائه المقيمين في تركيا، المتخلفين عن “الخدمة الإلزامية”، وبطبيعة الحال عن أعمالهم ومواقفهم من النظام، وأسئلة حول أبناء الأعمام والأقارب. يقول أبو سامر إنه لم يجتمع بأولاد عمومته منذ سنوات، وعرف أثناء التحقيق أنهم مطلوبون للأجهزة الأمنية. وبعد ثلاث “زيارات” إلى “فرع فلسطين”، حصل أبو سامر على “الموافقة الأمنية”، بعدما دفع مبلغ 100 ألف ليرة سورية لأحد العناصر الذي يُعتبر “مفتاحاً” للضابط المسؤول عن “قسم الموافقات”.

ومن الأمور الأساسية للحصول على “موافقة” السكن الأمنية، تسجيل أسماء الذين سيسكنون المنزل بالتفصيل، ولا يحق للمستأجر استقبال آخرين إلا بقصد الزيارة، وإلا سيكون مصيرهم الإخلاء المؤكد في حال تم كشف أمرهم بإقامة أشخاص لم يتم تسجيلهم ضمن عقد المنزل و”الموافقة” الأمنية.

عشرات الإنذارات توجه يومياً لسكان مُهجّرين إلى دمشق، لإخلاء منازلهم، بحجج مختلفة، منها انتهاء وقت الموافقة، ومنها وجود مطلوبين في العائلة، أو هروب الشباب المسجلة أسماؤهم ضمن الموافقة الأمنية بعد استدعائهم إلى “خدمة الاحتياط”. أبو محمود، تم انذاره بضرورة إخلاء منزله في حي بستان الدور، بعد هرب ابنه إلى خارج سوريا، فور ورود اسمه لـ”الخدمة الاحتياطية”. وفي أول “مسح احصائي” للمنطقة، تبين لأجهزة الأمن هروب الشاب بعد تبليغه بوجوب الالتحاق “بخدمة الوطن”. لذا فقد انذروا الأب بضرورة إخلاء المنزل مباشرة ومغادرة المنطقة، تحت طائلة الاعتقال.

ولا تقتصر عمليات الإخلاء على المستأجرين فقط، بل طالت مئات المنازل من الذين سكن فيها أقارب، بموجب وكالات من أصحاب المنازل، بذرائع مختلفة. كأن يكون أصحاب المنزل لاجئين سياسيين في الخارج، أو لديهم تواصل مع المعارضة في تركيا، أو هاربين من “خدمة الوطن”، أو انتهاء الوكالة التي يصعب تجديدها في كثير من البلدان. إخلاء المنازل من قاطنيها، غالباً ما تتم بغرض تحويلها إلى مقرات أمنية، أو الاستحواذ عليها من قبل الضباط.

عمليات “الإحصاء” التي أصبحت شبه يومية في أحياء دمشق، هي الوسيلة الوحيدة للوصول إلى هؤلاء الناس وتهجيرهم بطرق “قانونية”. فروع الأجهزة الأمنية تُفرز دوريات، بحسب القطاعات، تقوم بالتجول اليومي بين الأحياء وتدخل المنازل للتحقق من صحة الأوراق الثبوتية والملكية للقاطنين. وهنا تبدأ عملية الإذلال للمستأجرين أو المقيمين، بموجب وكالات أو عقود استضافة، ليتم تهجيرهم بعملية ممنهجة، القصد منها التطهير العرقي، وإبعاد أبناء المناطق المنكوبة عن عمق العاصمة وجعلها بالكامل حاضنة شعبية لهم، تخلو من أي مواطن يحمل شائبة أو خصلة تصله بالمعارضة أو المناطق الساخنة.