نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية تحقيقاً موسّعاً تتبّعت خلاله مصير 55 شخصية من الصفّين العسكري والأمني، إضافة إلى أسماء علمية بارزة ارتبطت بنظام بشار الأسد، بعد سقوطه.
وتمكنت الصحيفة من تحديد أماكن إقامة نحو نصف هذه الشخصيات، فيما بقي النصف الآخر بلا أثر واضح، أشبه بـ”أشباح” اختفوا من المشهد العام. ومن بين جميع الأسماء التي جرى تتبعها، لم يُؤكَّد اعتقال سوى حالة واحدة فقط، ما اعتبره التحقيق مؤشراً فاقعاً على حجم الإفلات من العدالة.
وبحسب التحقيق، فقد شكّلت العاصمة الروسية موسكو الوجهة الأساسية لدائرة الحكم الضيقة، حيث جرى نقل بشار الأسد وعدد من أقرب معاونيه إليها ضمن ترتيبات أمنية محكمة. وتفيد الصحيفة بأن السلطات الروسية فضّلت تجميعهم في موقع واحد لتسهيل المراقبة والسيطرة، لا بهدف محاسبتهم أو الحد من امتيازاتهم.
وبعض هؤلاء استقرّ في شقق فاخرة داخل فندق فورسيزونز المطلّ على الكرملين، حيث تصل كلفة الإقامة الأسبوعية إلى نحو 13 ألف دولار. ويوفر الفندق خدمات عالية المستوى، تشمل تسهيلات للطائرات الخاصة وحضور فعاليات ثقافية حصرية، في منفى بدا أقرب إلى انتقال ناعم في نمط الحياة منه إلى هروب سياسي.
ورُصد ماهر الأسد شقيق المخلوع وقائد الفرقة الرابعة، داخل صالة الرياضة في الفندق، معبّراً عن سخطه مما آلت إليه الأوضاع، بينما كان آخرون من الحلقة الضيقة يقضون صباحاتهم في أحاديث ثقيلة على موائد الإفطار عن مستقبلهم الغامض.
وبالتوازي، وثّق التحقيق إقامة حفلات أعياد ميلاد فاخرة لبنات الأخوين الأسد، بعضها في فيلا بموسكو، وأخرى على متن يخت فاخر في دبي، وفق ما ظهر في حسابات مقرّبين ومنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي.
لكن هذا البذخ لم يشمل الجميع، وبحسب “نيويورك تايمز”، فقد فرّ أكثر من 1200 ضابط سوري على متن طائرات شحن عسكرية روسية، دفع بعضهم رشى للحصول على مقعد. وعند وصولهم، وُضعوا في مساكن سوفياتية قديمة، بغرف مشتركة وطعام متواضع، مع شعور دائم بأن وجودهم مؤقت وقابل للانتهاء في أي لحظة.
وداخل تلك المساكن، تفجّرت توترات قديمة أحد أبرز الأمثلة كان تعرّض آصف الدكر، المتهم بالإشراف على التعذيب، للضرب والإهانة من ضباط آخرين حمّلوه مسؤولية الفساد وسوء المعاملة، في مشهد يعكس انهيار التضامن الذي فرضته السلطة سابقاً.
ولاحقا، مُنح الضباط خيارين: الاعتماد على أنفسهم مالياً مقابل حرية حركة نسبية، أو البقاء على نفقة الدولة الروسية مع توزيعهم على مناطق نائية داخل البلاد، وصولًا إلى أطراف سيبيريا. بعضهم اختار العزلة الجغرافية، فيما حاول آخرون إعادة إنتاج نمط حياتهم السابق.
ومن بين هذه الحالات، برز اللواء أوس أصلان، المتهم بالإشراف على مجازر وقمع دموي. حيث أُرسل بداية إلى مدينة قازان بذريعة عدم امتلاكه أموالاً، قبل أن يظهر بعد أشهر في موسكو داخل شقة تُقدّر قيمتها بالملايين، في ما وصفه التحقيق بـ “فشل لعب دور المعدم”.
كما شكّلت الإمارات العربية المتحدة ملاذاً مفضّلاً لعدد من رموز النظام، لما توفره من بيئة لغوية مألوفة ونمط حياة فاخر. غير أن الاستضافة، وفق التحقيق، جاءت مشروطة بحظر أي نشاط سياسي أو ظهور إعلامي، ومنع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
ومن بين المقيمين هناك، وزير الداخلية السابق محمد رحمون، المتهم بالإشراف على حملات اعتقال وقتل خارج القانون. وفيما يلتزم الصمت، يدير أبناؤه أنشطة تجارية فاخرة في دبي، تشمل تجارة المجوهرات وورش صيانة سيارات فارهة.
وغسان بلال، أحد أبرز المتهمين بإدارة شبكة الكبتاغون التي موّلت النظام بمليارات الدولارات. ورغم صدور مذكرة توقيف بحقه من فرنسا، استثمر بلال في عقارات فاخرة داخل الإمارات، بينما تعيش عائلته بين إسبانيا ودبي دون عوائق تُذكر.
في المقابل، لم تكن جميع الحالات مستقرة. ياسين ضاحي، الرئيس السابق لفرع فلسطين سيّئ الصيت، يقيم في دبي بتأشيرة منتهية، ويعاني مرضاً قلبياً، والخوف من الترحيل، بحسب التحقيق، يمنعه من دخول المستشفيات، مع تدهور واضح في وضعه الصحي والمالي.
ويُوثق التحقيق أن عدد من المسؤولين السابقين في النظام المخلوع لا يزالون متخفين داخل سوريا، وبعضهم حاول التعاون مع السلطة الجديدة، كما في حالة عصام حلاق، قائد سلاح الجو السابق، قبل أن يُقصى لاحقاً ويُترك بلا راتب أو حماية، ليعيش في دمشق بحذر شديد وخوف دائم من الاعتقال.
ومن بين الأسماء الـ55 التي تتبعها التحقيق، لم يُؤكَّد اعتقال سوى شخص واحد هو طاهر خليل، المسؤول السابق عن مديرية المدفعية والصواريخ، والمتهم بالإشراف على ضربات كيميائية. جرى توقيفه بعد محاولته التخفي كمتقاعد عادي، واعتُقل بصمت تام.
أما مهندسو برنامج الأسلحة الكيميائية، وعلى رأسهم عمرو أرمنازي، فما زالوا يعيشون بحرية داخل سوريا، وتصف منظمات حقوقية أرمنازي بأنه العقل المدبّر للبرنامج، إلا أنه لم يُساءل جنائياً ويشغل حالياً منصباً أكاديمياً في السلطة الجديدة.
