أطلق وزير الاقتصاد والصناعة في الحكومة السورية الجديدة، نضال الشعار، مصطلحاً جديداً ملفتاً، في مقابلة أجراها قبل أيام مع قناة “الشرق”، “اختراع سوريا” مفضّلاً إياه على مصطلحات من قبيل “إعادة إعمار سوريا”، التي يفهمها بوصفها “إعادة إنتاج” لسوريا السابقة، مرة أخرى.
فهو يقصد سوريا أخرى، مختلفة عن تلك التي عرفها السوريون، على الأقل، طوال العقود الستة الفائتة. سوريا غير ذلك الكيان “المُتعَب” و”المُرهَق”، الذي كان.
ويحدّد الوزير سمات “سوريا الجديدة” التي يأمل “اختراعها”. فهي “مسالمة متطورة تكنولوجية”، “تزهو بأبنائها وبخبرات أبنائها”.
يُعد نضال الشعار واحداً من أكثر القامات الخبيرة إثارةً للإجماع، في التشكيلة الحكومية التي أعلنتها إدارة الرئيس أحمد الشرع، قبل أسبوع.
فهو يملك خبرة أكاديمية ومهنية، محلية وإقليمية ودولية. ناهيك عن خبرته السابقة بالعمل الحكومي، إلى جانب خبرته الخاصة التي يمكن الإفادة منها، على صعيد العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، بحكم دراسته وتدريسه للاقتصاد وعمله في أميركا، سابقاً.
ورغم كل ما سبق، جاءت طروحات الوزير في المقابلة المشار إليها، واقعية ومتواضعة ولا رهانات كبرى على الخارج فيها. إلا أنه يمكن استنباط رهان داخلي تقوم عليه طروحاته. وإن لم يشر إليه الشعار مباشرةً.
وهي أن طبيعة النظام الحاكم تغيرت. وهو رهان، إن لم يكن دقيقاً، فلا قيمة لأيٍّ من الطروحات التي قدّمها الرجل، فما الذي تغيّر في طبيعة النظام الحاكم بسوريا، مقارنة بالذي سبقه؟ إن كان رهان الشعار دقيقاً، فإن ثلاث سمات لن تكون موجودة في طبيعة النظام الحاكم اليوم، بسوريا.
الأولى، الارتكاز إلى أيديولوجية دوغمائية بوصفها سردية خاصة بالحكم، يستند إليها لإخضاع المحكومين، ولتبرير الإجراءات الاستثنائية التي يصدرها. نظام الأسد كان يستند إلى أيديولوجية مقاومة وممانعة للغرب وربيبتهم، إسرائيل، وهي الركيزة النفسية والإعلامية التي بنى عليها استبداده، إلى جانب الركيزة القسرية (الجيش وأجهزة الأمن).
أما السمة الثانية، فكانت خلق طبقة من قطاع الأعمال عميلة للنواة الضيقة للنظام (آل الأسد)، تحتكر الاقتصاد، بكل مفاصله، وتُفصَّل كل القرارات الاقتصادية على قياسها، ولصالحها.
وأما السمة الثالثة، فكانت تفضيل حالة العزلة الاقتصادية عن الخارج، والاصطراع السياسي مع الإقليم، لصالح حصرية السيطرة السياسية والاقتصادية المطلقة في الداخل، حتى لو كان ذلك يعني، الاتجاه نحو توفير غطاء سلطوي لشبكات الجريمة المنظّمة، والاقتصاد اللاشرعي.
فهل يخلو النظام الحاكم اليوم في سوريا، من هذه السمات الثلاث؟ أو بتعبير أكثر دقة، هل هو باتجاه عدم استنساخها مجدداً؟ يبدو رهان الوزير نضال الشعار، وفق ما يمكن فهمه من حديثه، أنه يرى أن طبيعة النظام الجديد، مختلفة عن الذي قبله.
من جانبنا نأمل أن يكون هذا الرهان في مكانه، رغم مؤشرات أولية مقلقة توحي بأن السمتين الأولى والثانية، على الأقل، قد تكونا مطروحتين في أجندة الحكّام الجدد بدمشق. ونأمل بشدة، أن نكون مخطئين في هذا التوجس.
يبني الشعار كل طروحاته على هذا الرهان. رهان تغيّر طبيعة النظام. وبالتالي، إمكانية خلق سوريا جديدة. فقد تحدث عن استقطاب الخبرات السورية واستنهاضها. تلك الخبرات التي لم يكن من المتاح لها الظهور سابقاً، حتى في الداخل، بحكم طبيعة النظام السابق، من دون أن يشير الشعار لذلك، بصورة مباشرة.
كذلك تحدث عن نيته التشاور مع كل أصحاب المصلحة، من قطاع خاص وصناعيين وتجار وموظفي قطاع عام، بكل فئاتهم، قبل إصدار أي قرار. بمعنى، أن القرارات لن تكون مفصّلة على قياس فئة ذات حظوة خاصة، كما كان الأمر سابقاً. كما وتحدث عن “سوريا المسالمة”، في مواجهة تهديدات المحاور الإقليمية، في مؤشرٍ إلى رهانه على عدم “أدلجة” توجهات السلطة الجديدة، خدمةً لإحكام السيطرة.
أما الملفت في حديث الشعار، فهو حجم الطرح المتواضع الذي قدّمه بعيداً عن الوعود البرّاقة بنهضة استثنائية سريعة مستندة إلى االاستثمار الخارجي. فقد تحدث عن تيسير إعادة إطلاق عجلة الإنتاج المحلية.
وبدا رهانه على ذلك، أكبر بكثير من أي رهان آخر. موجهاً نداءً للسوريين بأن يبدأوا بالإنتاج، على أن يكون دور الحكومة، التيسير. أي تيسير النشاط الإنتاجي وإزالة أية عوائق تقف في وجهه.
ومن المعلوم، أن النظام السابق كان قد عرقل عجلة الإنتاج المحلي بالضرائب والرسوم الجمركية الباهظة، وبإتاوات الحواجز الأمنية، وبالارتهان لثلة من ممثلي مصالح نخبة النظام في قطاع الأعمال. هذه العوائق لن تكون قائمة في مقبل الأيام، وفق ما يمكن استنباطه من حديث الشعار.
أما عن العقوبات ودور الخارج، فبدا الشعار متفائلاً بانفراجة قريبة بهذا الصدد، من دون أن يضع كل رهاناته على هكذا تطور. فالتاجر والصناعي السوري، حسب الشعار، تعلّم التكيّف مع العقوبات وإيجاد مخارج “شرعية” من قيودها، منذ العام 1979.
كذلك، بدا الشعار متفائلاً حيال استعادة وحدة الكيان السوري، والتفاهم بين الأفرقاء السوريين، قريباً. مشيراً إلى جهود حثيثة من السلطة في دمشق، بهذا الاتجاه.
تفاؤل الشعار، وبصورة خاصة، رهانه على تغيّر طبيعة النظام، تثير الارتياح والأمل. وهو ما تحدث عنه، بوصفه أمراً ملموساً في الشارع السوري، حسب مشاهداته على الأرض.
ليبقى هذا الارتياح والأمل، برسم الممسكين بزمام الحكم في دمشق، فإن الارتداد إلى أساس أيديولوجي أو تحالفات ارتزاقية مع أشخاص محددين في قطاع الأعمال، لن يعني، إلا الارتداد إلى نسخة أخرى من النظام السابق. بحلة جديدة، لا أكثر.
المصدر: جريدة المدن اللبنانية