في المشهد القاتم للتدهور الأمني في سورية تبرز قصص عائلات تعتمد منذ سنوات على المساعدات الإنسانية وحوالات المغتربين كخيط رفيع يفصل بين الحياة والموت .
بعد سنوات من الحرب التي دمّرت البنى التحتية وشرّدت ملايين، يرسم الواقع السوري ملامح مرحلة جديدة ليست أقل قسوة من سابقاتها.
فمع تراجع حدّة العنف في بعض المناطق تحوّل الهاجس الأمني إلى كابوس اقتصادي يطارد السكان، مع ارتفاع جنوني في أسعار المواد الأساسية، وبطالة تلامس نسبة 80% وفق التقديرات المحلية، وانهيار شبه كامل لقطاعي الزراعة والصناعة.
في داريا بريف دمشق التي عانت من حصار نظام الأسد طوال سنوات وشهدت تدميراً ممنهجاً، بدأت تظهر مؤشرات محدودة لعودة الحياة.
يقول محمد إبراهيم لـ”العربي الجديد”: “عاد بعض الحرفيين إلى مزاولة أعمالهم في النجارة والحدادة بعد سنوات من نزوحهم إلى مناطق مثل جرمانا وصحنايا، لكن عودتهم ليست سهلة، فتكاليف ترميم المنازل المدمّرة وغلاء مواد البناء حوّلت الاستقرار إلى رفاهية بعيدة المنال.
علماً أن معظم الأهالي يعتمدون على حوالات شهرية من أبنائهم المغتربين، والتي تتراوح بين 100 و150 دولاراً لشراء الطعام والدواء”.
يتابع: “الأكيد أن هذه الحوالات لا تكفي حتى في تسديد الاحتياجات الأساسية، فأسعار الخبز تضاعفت ثلاث مرات خلال عام، ووصل سعر ليتر المازوت إلى 12 ألف ليرة سورية (نحو دولار)، فيما يحتاج المنزل للتدفئة إلى ما يعادل 6 ليترات يومياً كحدّ أدنى، أي 72 ألف ليرة.
وهكذا تصرف أي حوالة يرسلها مغترب في أقل من عشرة أيام بين الخبز والتدفئة فقط. وأجبر ذلك كثيرين على الاعتماد على الأعشاب والمخلفات البلاستيكية والورقية في التدفئة.
ورغم ذلك لم يفقد هؤلاء الأمل لكنهم يدركون أن إعادة الإعمار تحتاج إلى وقت طويل”.
في ريف القنيطرة جنوبي سورية حيث تعتمد غالبية السكان على الزراعة وتربية الماشية والنحل، تحوّلت الحقول إلى ممرات لجنود وعربات الاحتلال الإسرائيلي.
ويقول المزارع عمار الجاسم لـ”العربي الجديد”: “التوغلات الإسرائيلية دمّرت الأشجار والطرقات، وحرمتنا من الوصول إلى أراضينا، كما أن ارتفاع أسعار الوقود والطحين جعل الزراعة تتعرّض لخسائر مادية كبيرة، لكننا نتمسك بها لأنها مصدرنا الوحيد للبقاء”.
ومع تفاقم الأزم، يهرب شباب المحافظة من البطالة عبر الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا أو لبنان، بينما تحاول العائلات الباقية إعالة نفسها عبر صنع المطرّزات والأجبان المنزلية، لكن حتى هذه المحاولات تواجه عراقيل.
ويوضح الجاسم: “تحاول قوات الاحتلال تقديم مساعدات إغاثية لاستمالة الأهالي لكننا نرفضها رغم أننا في حاجة إليها. لا نريد أن نبيع أرضنا بقطعة خبز”.
وفي محافظة السويداء جنوبي سورية تتحوّل طوابير المحتاجين أمام منظمة الهلال الأحمر إلى مشهد يومي.
وتقول سماهر زيدان التي تعمل في إحدى الجمعيات لـ”العربي الجديد”: “تضاعف خمس مرات عدد العائلات التي تطلب مساعدات منذ بداية العام الحالي بسبب انهيار تحويلات المغتربين، خاصة في أوروبا، حيث تواجه الجالية السورية أزمات اقتصادية حادّ”.
وفي مواجهة الجوع، اتجهت النساء إلى الإنتاج المنزلي، حيث تصنع نساء الخبز والمخللات والمجففات والأجبان والألبان وبعض المأكولات في منازلهن من أجل بيعها والعيش من مدخولها، فيما تنشط أخريات في صناعة المطرزات اليدوية والصابون وأدوات التنظيف والشموع، وينفذن أعمالاً أخرى أيضاً لاكتفاء شر الحاجة إلى الناس.
وتقول نداء حرب التي تسكن في الريف الشرقي لمحافظة السويداء لـ”العربي الجديد”: “أكسب 10 دولارات أسبوعياً من صناعة الصابون والمنظفات بشكل يدوي بدائي كي أعيل ابنتي اللتين تركهما لي زوجي الذي استشهد في تموز 2018، ويكفي هذا المبلغ بالكاد لشراء الدواء والخبز”.
بدورها، تعمل رحاب الحلبي في غياب المعيل بسبب وفاة زوجها، 14 ساعة يومياً في صناعة الشموع والمطرّزات، وتقول: “لا يتجاوز ربحي بضعة آلاف الليرات يومياً لكنني أفضل انتظار المساعدات التي قد لا تأتي.
لكن حتى هذه الحلول البدائية مهددة، فغلاء المواد الأولية للصناعات اليدوية، وتأخر مواسم الأمطار الذي يضرّ بالمحاصيل الزراعية، زادا اعتماد الأهالي على المساعدات الخارجية الهشة”.
وفي درعا، يواصل متطوعون محاولة سدّ الفجوات عبر تنفيذ مبادرات فردية، ويقول أحد الناشطين في العمل الإنساني بريف درعا الغربي، لـ”العربي الجديد”: “نسدد ديون الأهالي في الصيدليات، ونوزع سلالاً غذائية على 500 عائلة شهرياً.
هذه الجهود لا تقارن بأعداد المحتاجين، وبعد وقف رواتب الموظفين تحوّل 70% من سكان المحافظة إلى عاطلين، كما أن الزراعة التي كانت مصدر فخر لأبناء المحافظة، أصبحت نشاطاً خاسراً”.
ويؤكد المزارع محمد العلي كلام إبراهيم، ويقول لـ”العربي الجديد”: “تكلفة إنتاج الخضار كبيرة جداً في حين أنه يُباع بنحو 60% من سعر تكلفته بسبب التصدير العشوائي غير المدروس.
والنتيجة هي إفلاس مزارعين كثيرين، واتجاه الشباب إلى الهجرة، بينما تعاني عائلات كثيرة من أعباء إضافية مثل كفالة الأيتام والأرامل”.
وفيما تشكل التحويلات المالية التي يرسلها المغتربون شريان الحياة لنسبة كبيرة من العائلات، خاصة في دمشق والسويداء، بدأ هذا الشريان ينضب. ويقول محمد المنصور الذي يسكن في دمشق، وهو والد شاب مغترب في ألمانيا: “كان ولدي يرسل لي 200 دولار شهرياً، لكن ارتفاع تكاليف المعيشة هناك أجبره على تخفيض المبلغ إلى 150 دولاراً، لم يعد يكفينا لشراء الأدوية المزمنة لي ولوالدته خاصة بعد انخفاض سعر الصرف”.
ورغم صمود السوريين تظل المبادرات الفردية غير كافية في ظل مواجهة المشاكل الكبيرة لاقتصاد منهار، فالدعم الدولي المشروط والفساد المستشري والصراعات الإقليمية حول سورية عوامل تُعمّق الأزمة، فيما يبدو أن الحل سيبقى معلقاً بين صرخات الجياع في طوابير المساعدات وصمت العالم.
المصدر: موقع العربي الجديد