أظهرت مقاطع فيديو ملتقطة جواً حجم الدمار الناجم عن الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا في السادس من شباط الحالي بقوة 7.8 درجات على مقياس شدة الزلازل “ريختر”، ليحل في المرتبة الخامسة ضمن أقوى الزلازل في القرن الحادي والعشرين.
وتساءل الكثير منا عن أسباب حدوث الزلزال ولماذا تسبب بكل هذا العدد من الضحايا الذي بلغ نحو 40 ألف وفاة حتى ظهر اليوم الإثنين وأكثر من 100 ألف مصاب وعشرات آلاف المفقودين في منطقة الكارثة، إضافة لتساؤلات كثيرة حول حجم الخسائر المادية والدمار الحاصل يجيب عليها موقع الجزيرة نت.
ما الذي تسبب في الزلزال أصلا؟
لو تخيلنا أن كوكب الأرض هو ثمرة تفاح، فإن طبقة القشرة الأرضية هي ببساطة قشرة التفاحة الرقيقة، لكن هذه القشرة الأرضية تبلغ سماكتها من 30 إلى 70 كيلومترا في القارات، ومن 6 إلى 12 كيلومترا في المحيطات، وهي تختلف في شيء آخر عن قشرة التفاحة وهو أنها ليست قطعة واحدة تغطي الأرض، بل تتكون من عدد من القطع التي تسمى بالصفائح التكتونية، التي تتداخل مع بعضها بعضا بشكل يشبه الأحجيات الورقية، تلك الصفائح تتحرك ببطء، أو قل إنها تسبح لمسافة سنتيمترات كل عام على طبقة أخرى للأرض تقع أسفلها وتسمى الوشاح، ولذلك لا نلحظ أثرها.
تبتعد تلك الصفائح التكتونية عن بعضها بعضا في أماكن وتقترب في أخرى، ومع اقتراب جانبَيْ صفيحتين تكتونيتين من بعضهما بعضا في أحد الأماكن فإنهما تحتكان لصنع ما يسميه العلماء بـ”الفالق” (Fault)، طبيعة احتكاك الفالق تختلف بحسب طبيعة الصخور التي تحتك مع بعضها بعضا واتجاه الحركة، فقد ينزلق جانبا السحابة باتجاهين متعاكسين لكن على المستوى نفسه أو يتحرك أحدهما للأعلى أو للأسفل.
في الحالة العادية، تنزلق أطراف الصفائح ببطء وسلاسة، لكن في بعض الأحيان لا يكون الأمر هكذا، لفهم تلك الفكرة تخيل أن هناك قطعتَيْ رخام كبيرتين بمساحة عدة أمتار مربعة، كلٌّ منهما لها وجه غير ناعم، قمنا بربط العلوية منهما بحبل قوي وبدأنا في سحبها، في البداية لا تتحرك القطعة فنزيد من قوة الشد، ومع الشد تنزلق قطعة الرخام فجأة فتتحرك لعدة سنتيمترات وفي أثناء حركتها تلاحظ أنها تهتز بشدة.
تركيا منطقة حرِجة في مواجهة الزلازل
هذا بالضبط ما يحدث في حالة الزلزال، لكن بدلا من الوضع الرأسي تلتقي صخور أطراف الصفيحتين أفقيا، في بعض الأحيان تحتكان بشدة فتقفان لوهلة من الزمن، في أثناء ذلك تختزن كلٌّ منهما الطاقة في هذا الاحتكاك (هذه هي الحالة التي تحاول فيها الشد لكن قطعة الرخام لا تتحرك بعد)، وفي لحظة ما تنفلت تلك الطاقة فتتزحزح تلك الصخور لمسافة كبيرة غير معتادة، ومع زحزحتها تنطلق الطاقة لتسري في كل مكان بالكوكب، لكنها تضرب أقرب النقاط لها بأكبر قوة.
تركيا في ملتقى ثلاث صفائح
تركيا تحديدا تواجه مشكلة مع هذا الأمر، حيث تقع على صفيحة تكتونية صغيرة تسمى صفيحة الأناضول، التي تندفع للغرب بفعل حركة صفيحتين كبيرتين مجاورتين، الأولى هي الصفيحة الأوراسية من الشرق والشمال، والثانية هي الصفيحة العربية جنوبها، ويضاف إلى ذلك تأثير حركة الصفيحة الأفريقية، تشابك تلك التحركات يضع تركيا تحديدا في منطقة حرجة زلزاليا.
تسببت الاحتكاكات المستمرة بين هذه الصفائح التكتونية في بناء فالقين كبيرين في تركيا، الأول هو فالق شمال الأناضول الذي يجري على مسافة 1500 كيلومتر ويبتعد خطه الرئيسي 20 كيلومترا فقط عن إسطنبول، والثاني هو فالق شرق الأناضول بطول 700 كيلومتر، وقد حدث الزلزال الأخير بسبب انفلات للطاقة حدث بين جانبَيْ فالق شرق الأناضول، وقد عانت البلاد من زلازل كبيرة تتخطى الدرجات السبع بسبب كليهما خلال مئات السنين الماضية، وللأسف فإنها ستعاني من زلازل شبيهة في المستقبل.
كيف انتشر زلزال تركيا إلى مسافة ألف كيلومتر خارجها؟
لكن لا بد في تلك النقطة أنك تتساءل عن انتشار الزلزال، كيف يمكن لقوة بالداخل أن تنتقل إلى دائرة واسعة تتخطى ألف كيلومتر خارج تركيا، حيث شعر بالزلزال بعض المواطنين في مصر على سبيل المثال، عند تلك النقطة نحتاج إلى أن نفرّق بين حجم الزلزال أو قياسه (Magnitude) وبين قوته (Intensity)، الأول يقيس موجة الزلزال نفسها والثاني يقيس تأثيرها عليك. ولفهم الأمر، تخيل أن الزلزال -أيًّا كان- هو مصباح كهربائي له مقياس محدد، بعض المصابيح مثلا يكون بقدرة 25 واطا، والبعض بقدرة 100 واط، وهكذا.
الآن ضع كلاً من المصباحين في حجرة كبيرة، ستلاحظ بالطبع أن أسفل المصباح بالضبط تكون الإضاءة أعلى، لكن كلما ابتعدت عن مركز المصباح خفت الإضاءة، وبعد مسافة ما، لتكن مثلا عشرين مترا، يكون أثر ضوء المصباح ضعيفا جدا، لكن المؤكد أن المصباح بمقياس 100 واط سيغطي الضوء الصادر عنه مساحة أكبر من المصباح بمقياس 25 واطا.
الأمر كذلك في حالة الزلازل، مقياس حجم الزلزال هنا مثل مقياس المصباح، وهو يقيس موجات الزلزال المنطلقة من باطن الأرض، ولكنه على عكس المصباح مقياس يتصاعد لوغاريتميا، يعني ذلك أن كل درجة على مقياس الزلزال أكبر من التي تسبقها بعشرة أضعاف، فالزلزال بمقياس 7.0 درجات أكبر بعشرة أضعاف من الزلزال 6.0 درجات، وتلك نقطة مهمة لو تأملتها قليلا فسوف تفهم من خلالها سر الفارق بين الزلازل الكبرى مثل هذا الزلزال، والصغرى بشكل عام، فالزلزال الأكبر على المقياس لا يكون فقط أقوى ولكنه ينتشر لمسافة أوسع، تماما كما يكون ضوء المصباح بقيمة 100 وات أقوى، وينتشر لمسافة أوسع.
لماذا تكون الزلازل الأكبر أكثر تدميرا؟
دعنا مثلا نقارن بين الزلزال الذي ضرب مصر في عام 1992 وتسبب في وفاة مئات الأشخاص، لقد كان بمقياس 5.8
درجات، مع زلزال سوريا وتركيا الأول بمقياس 7.8 درجات، يعني ذلك فارق درجتين في المقياس، كل درجة منهما تعني عشرة أضعاف، ويعني ذلك بالتبعية أن زلزال سوريا وتركيا كان أكبر بفارق 100 ضِعْف، لأننا في حالة التصاعد اللوغاريتمي نضرب ولا نجمع. لكن هذا هو المقياس أو الحجم، فماذا عن قوة الزلزال نفسها؟
القوة أو الشدة تعبر عن شعورك أنت بالزلزال، قدر الاهتزاز الذي تحصل عليه أيا كان منزلك، ومثل حالة المصباح، فإن قوة الزلزال تختلف من مكان إلى آخر بحسب ابتعادك أو اقترابك من مركز حدوثه، فكلما كنت أقرب إلى مركز موجة الزلزال كلما شعرت بهذه القوة بشكل أكبر، وقطعا كلما كان حجم الزلزال أكبر، كلما كان شعورك به أكثر قوة.
الاختلاف الرئيسي هنا هو أنه في حين أن الفارق بين درجة ودرجة على مقياس الزلزال يساوي 10 أضعاف حجم الزلزال، فهو يعادل على الجانب الآخر 32 ضِعْف قوته، أي أن زلزالا بقوة 7.0 درجات سيكون أقوى (في تأثيره) من آخر بقوة 6.0 درجات بـ32 ضعفا. ولو عدنا للمقارنة السابقة فإن زلزال تركيا وسوريا سيكون أقوى بفارق 1000 ضعف تقريبا مقارنة بزلزال مصر. في الواقع، فإن زلزالا بقوة 7 درجات يطلق طاقة تعادل 30 قنبلة نووية مثل التي أُلقيت على مدينة هيروشيما اليابانية عام 1945، بينما زلزال بمقدار 8 درجات يطلق طاقة تساوي انفجار 1000 قنبلة نووية من النوع نفسه.
يُعَدُّ مبدأ اللا خطية (Nonlinearity) الذي تتبعه الزلازل مفهوما صعب الفهم، هل سمعت من قبل عن الأسطورة الشهيرة التي تقول: “إن ملك الهند أعجب بذكاء أحد وزرائه، فطلب منه أن يتمنى ما يريد”؟، تقول الأسطورة إن الوزير طلب أن توضع حبة أرز واحدة فقط في أول مربع على رقعة الشطرنج، ثم بالتوالي يضاعَف الرقم الناتج من خطوة لأخرى، الملك لم يفهم المقصد، وحسبه طلبا تافها، لكن التصاعد اللا خطي كان شبيها بالحالة السابقة، فبعد خطوات قصيرة جدا، أدرك الملك أنه سيضطر إلى أن يعطي الوزير كل مملكته، ولن يكفيه!
يمكنك أن تجرب تلك الفكرة بنفسك، فقط اضرب 2X2 على الآلة الحاسبة في هاتفك الذكي، بعد ذلك استمر في الضغط على زر “يساوي”، قد تستغرب أنك بعد نحو ثلاثين ضغطة فقط تكون قد تخطيت المليار الأول، لكن يتطلب الأمر عدد ضغطات أقل بفارق واضح لتتخطى التريليون! هذا هو -بشكل قريب- ما يحدث في تصاعد مقاييس الزلازل، والآن صرت تعرف ما يعنيه زلزال بمقياس 7.8 درجات.
ما الذي يعنيه أن بؤرة الزلزال كانت على عمق 18 كيلومترا؟
لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، قلنا قبل قليل إن الطاقة المنفلتة من زلزال تركيا وسوريا الأول كانت تساوي مئات القنابل النووية، لا يعني ذلك أن الأمر يشبه إلقاء مئات القنابل النووية على مدينتي غازي عنتاب أو قهرمان مرعش، ولكن يعني أن الطاقة الخارجة من الزلزال، تحديدا في بؤرته (Focus) داخل باطن الأرض، تساوي مئات القنابل النووية، لكن هذه الطاقة تسافر في صورة موجات لتتوزع في كل مكان بالكوكب، ويظل أكبر مكان يتلقى الضربة هو الذي يقع فوق البؤرة بالضبط، ويسمى “المركز السطحي” (Epicenter)، في حالة الزلزال التركي السوري الأول كان المركز السطحي بالقرب من غازي عنتاب، وفي حالة الزلزال الثاني كان المركز السطحي بالقرب من جارتها قهرمان مرعش.
وللأسف، فإن بؤرة زلزال تركيا كانت على مسافة قريبة نسبيا من السطح (نحو 18 كيلومترا)، ما تسبب في دفع قدر أكبر من القوة إلى المنطقة المحيطة (مدينتي غازي عنتاب وقهرمان مرعش)، وهو ما أضاف إلى قوة الهزة في المنطقة وأسقط عددا كبيرا من المنازل على الأرض، إلى جانب ذلك فإن قوة الزلزال أيضا تتأثر بطبيعة الأرض نفسها وطبيعة المباني، فالمباني القديمة أو غير المجهزة هيكليا للتعامل مع الزلازل ستكون أول المتساقطين، حتى مع زلازل أضعف من هذا.
ضرب الزلزال بقوة مناطق عدة على امتداد الفالق، أسقط البيوت فوق رؤوس الضحايا في مناطق عديدة بتركيا مثل ملاطيا وقهرمان مرعش وغازي عينتاب وديار بكر وأورفة وأضنة وفي سوريا بجرابلس بحلب، ووصل الأثر إلى دمشق وبيروت لكن بضرر أقل بفارق واضح، لكن الناس على كل حال خرجوا من منازلهم وباتوا ليلتهم في الشوارع.
في النهاية تجمّعت كل العوامل السابقة معا لإحداث الكارثة، وللأسف فإن عدد الوفيات لن يقف عند هذا الحد، لا يزال من المتوقع استخراج العديد من الجثث لا الأحياء، ومعظم الناجين يُستخرجون من تحت الحطام خلال أول 24-48 ساعة من التهدم، بعد ذلك تنخفض الاحتمالات يوما بعد يوم جذريا.
وطبياً يمكن أن يبقى الشخص في المتوسط نحو 5-7 أيام تحت الحطام، لكن بحلول ذلك الوقت عادة ما تكون الاحتمالات ضعيفة جدا، وهذا الحد هو ما تضعه الأمم المتحدة لإيجاد ناجين وإنهاء عمليات البحث والإنقاذ، لكن يظل هناك أمل أن يتخطى البعض هذا الحد، وقد حدث هذا من قبل، فبعد زلزال هايتي في كانون الثاني 2010، نجا رجل لمدة 12 يوما تحت أنقاض متجر ساقط.
وفي وقت لاحق، عُثر على رجل آخر على قيد الحياة بعد 27 يوما من الزلزال، لكن هذه تظل حالات استثنائية، أما المؤكد فهو أنه مع مرور الوقت، تتضاءل فرص العثور على ناجين، وتتزايد احتمالية العثور على المزيد من الضحايا والجثث.