بحث
بحث
انترنت

مهنة شاقة جداً.. أن تكون أباً في سوريا

على الأب في سوريا أن يكون مُنضبِطاً كعسكري برتبة دنيا، هادئاً كالغائب عن الوعي، وقوراً كراهب منعزل في دير، بينما الكل “فلتان” عليه كـ”الأباوة”، من مديره في العمل، إلى حكومة القرارات الليلية المُمْعِنة في إذلاله وتقزيمه، إلى تُجَّار لقمته الذين يتعاملون معه دائماً كلقمة سائغة

أن تكون أباً ليس بالأمر الهَيِّن، وإن كانت “الحياة مهنةً شاقةً”، كما يقول صديقي الشاعر، فإن حياة الأب تحديداً أكثر مشقّةً وأعمق ألماً، لا سيما إذا كان يعيش في سوريا اللا معقولة، بظروفها الهيستيرية الغامضة، الضاغطة على الأنفاس حتى في النوم، والتي لا تترك للإنسان فيها ولو فسحة صغيرة ليقول “آخ”، إذ لا يمتلك هذه الرفاهية، وليس بإمكان الأب فيها أن يصرخ بملء روحه “أنا متعب”، فذلك يستنزفه أكثر، ويصرف طاقته بلا جدوى، ويُحوِّله إلى مجرّد “نَقَّاق”، فما عليه في هذا الزمن الممتد من الإرهاق والإعياء، إلا أن يشحذ همَّته، أو ما تبقى منها، ليواصل مسلسل عذاباته، ويُمْعِنَ في عَيش قسوة وجوده من دون شكوى، وبلا أي تفكير في الانهيار، لأن بقاءه على قيد أبوَّته إنجازٌ بحدِّ ذاته، ولو كان ذلك يُكلِّفُه وسيُكلِّفه أن يتعامل مع أكثر من صخرة سيزيف في الوقت ذاته. والأنكى أن عليه أن ينظر إليها على أنها لُعبة “دحاحل” تجلب السعادة، أو أنها تمارين ضغط يومي لإذابة الدهون وتفريغ السموم وتنظيم ضغط الدَّم وقتل الكوليسترول وتوسيع مراوح الصدر وتضخيم عضلة الباي سيبس، والتراي سيبس على حد سواء.

أن تكون أباً ليس بالأمر الهَيِّن، وإن كانت “الحياة مهنةً شاقةً”، كما يقول صديقي الشاعر، فإن حياة الأب تحديداً أكثر مشقّةً وأعمق ألماً، لا سيما إذا كان يعيش في سوريا اللا معقولة.

على الأب في سوريا أن يكون مُنضبِطاً كعسكري برتبة دنيا، هادئاً كالغائب عن الوعي، وقوراً كراهب منعزل في دير، بينما الكل “فلتان” عليه كـ”الأباوة”، من مديره في العمل، إلى حكومة القرارات الليلية المُمْعِنة في إذلاله وتقزيمه، إلى تُجَّار لقمته الذين يتعاملون معه دائماً كلقمة سائغة، إلى سُكَّان بيته وجيرانه وأقربائه الذين يطالبونه بمزيد من الحكمة، وأن يكون متوازناً على الليبرة، في حين أن الأرض تحته شديدة الميلان، وزَلِقَة، ولا مكان مستوٍياً فيها ليضع عليه قدميه، ومع ذلك تراه يُروِّض وحوش مُخيِّلته وذئبيَّة أفكاره وهي تدعوه لأن “يَبولَ على الفهم”، وأن يتخلى عن رصانته ولو لمرة واحدة، علَّه يشفي ولو واحداً في الألف من الحقد في قلبه، على قولة مظفر النواب، لكنه بعد رؤيته لابتسامة زوجته المتعبة مثله، يعود ليهمس مع ممدوح عدوان بصمته الداخلي المُفجع: “طوبى لمن أتقن أن يتوازن في المشي وكان العالم مقلوباً”، إذ لا يملك في هذا العالم الكابوسي الذي يعيش فيه سوى أن يُعزِّي نفسه بقصيدة من القلب، أو أغنية شفيفة لفيروز تُداوي الأسى، أو لحن لرياض السنباطي يُهدِّئ النَّفس ويُعزز أوكسجين الروح.

على الأب في سوريا أن يكون مُنضبِطاً كعسكري برتبة دنيا، هادئاً كالغائب عن الوعي، وقوراً كراهب منعزل في دير، بينما الكل “فلتان” عليه كـ”الأباوة”، من مديره في العمل، إلى حكومة القرارات الليلية المُمْعِنة في إذلاله وتقزيمه، إلى تُجَّار لقمته الذين يتعاملون معه دائماً كلقمة سائغة

الأب في سوريا يُقاوم انهياراته من الفجر إلى النجر، إذ عليه في كثير من الأحيان أن يكون عَتَّالاً بقوة 200 حصان، مع أن أفضل تبديل زيت حصلت عليه مفاصله كان من خلال أكلة مجدرة، على أساس أن البرغل فيها هو مسامير الرُّكَب، والعدس مليء بالزنك و”الضنكيزيوم”، ولمن لم يسمع بهذا الأخير، أُخْبِرُهُ بأنه مزيج من المغنيزيوم والصوديوم والكالسيوم والبوتاسيوم، مُصنَّع خصيصاً لمواجهة ضنك العيش السوري الذي لا يوازيه ضنك في كل بقاع العالم، لكن بالطبع فإن المجدرة مع أنها بالأساس “أكلة مقدَّرة” من قبل الفقراء والأغنياء على حد سواء، إلا أنها باتت اليوم طبخةً أرستقراطيةً بعدما رفض البرغل أن يشنق حاله، وبات له كلّ العزّ الذي تفوَّق على الأرز بكل أشكاله، بما فيه أرز الكبسة، بينما العدس غارَ من الكَباب، وصار سعره هباب بهباب، ليبقى الضَّنك وحده ثابتاً لا يتغير، وملتصقاً بالأب السوري الذي ضَنُكَ جِسمُه وعقله، أي ضَعُفَا، وضَنُكَ بيته بمعنى ضاق، وصار أَضْنَكَ من عليها، ومع ذلك عليه أن يكون صَمَّام أمان، في حين أنه يكاد ينفجر في كل دقيقة آلاف المرات: على الأفران وتَجَبُّر مستثمريها وطوابير ذُلِّها المديدة وتُجَّار سوقها السوداء، وعلى كوَّات الصرَّافات الآلية التي تحتاج إلى أن يصرف الإنسان السوري نصف عمره ليعثر على واحد موضوع في الخدمة. وفي انتظار سيرفيس، ولو كان موديل سنة النكسة، والأنكى أنه بات يترفع هو وسائقه على مُريديه، بعدما أضافوا له تقنية الجي بي إس لتحديد مساره، وضبط تغيير خطوطه، خاصةً أن مُجرَّد مُراودة فكرة استقلال تاكسي، باتت في العرف السوري العام جنحةً اقتصاديةً موصوفةً، ويُعاقب عليها القانون العائلي أشد العقوبات، لا سيما في نهايات الأشهر.

يعلم الأب السوري أن عليه أن يكون مُرَبِّياً فاضلاً، بالرغم من إدراكه كَمِّ البذاءة وقلة الحياء في كل ما يحيط به، بالإضافة إلى ظروفه غير المنطقية التي لا تترك له وقتاً ليُربِّي غيرَ صَبْره، وأناته.

ومن دواعي الانفجارات المستمرة، شبكات الهاتف الخليوي التي ترفع أسعارها وتخفِّض مستوى خدماتها، فضلاً عن الرسائل التي تُصدِّع الرأس وتُحرِّك الشقيقة بكل ما تحويه من هُراء مُتَستِّر وراء المسابقات والأبراج ورنة بغنية وغيرها، في حين أن الرسائل المَرجوّة لا تصل إلا بِشَقّ الأنفس، وأقصد رسالة السكر والأرز المصونَين، ورسالة جرة الغاز العفيفة والنظيفة، ورسالة مازوت التدفئة ذات الخمسين ليتراً، والتي ما زالت تتغنج وتتدلَّل منذ شهور ظانَّةً أنها رسالة غرامية من البطاقة الذكية التي تتذاكى دائماً بِنَكْحِ أرواحنا، ولا تولِّد سوى مزيد من القهر والأسى.

وفي ظل ذلك وأكثر، يُفكر الأب السوري أن من واجبه أن يكون مِثالاً يُحتذى به، خاصةً لأبنائه، لكن كيف يستطيع إنجاز هذه الصورة الجميلة والجميع يُمثِّل فيه على الطالعة والنازلة، وما الذي بإمكانه أن يفعله بعدما تفوَّق على أيوب في صبره، وعلى سيزيف في مأساة وجوده، والأهم من ذلك بعدما تغلَّب على نفسه، وفاق تصوُّراته عن ذاته، بقوته، ويقينه الدامغ بأنه قادر على الانبعاث باستمرار من رماده، وأن الحرائق التي تحرق سلسفيل سلسفيله، لا تزيده إلا صلابةً وعزماً على المتابعة، ولا تُعزِّز إلا عنفوانه واعتداده بنفسه، إذ إنه بالإضافة إلى إنجازاته السابقة، وضعته الظروف الصُميدعية في خانة اليَكّ، إذ بات من الضروري له أن يمتلك مهارات مُحاسبٍ لا يُشقّ له غبار، وفوقها يتحلى بالنزاهة الأخلاقية، والضمير الصاحي، والذكاء الحصيف، والوجدان العالي، لتحقيق المعادلة الصعبة بين متطلبات بيته وطلبات أولاده في أيهما أهم؛ طابة البوظة أم بيضة الفطور؟ كيس الشيبس أم صحن اللبنة؟ الـ”شطّو مطّو” أم أرز الغداء؟ المارشميلو أم كيلو البطاطا؟… لكنه بالرغم من مهاراته الحسابية، سيتأكد في النهاية، وفي جميع الاحتمالات، أن حساباته كلها “فراطة”، ولا شيء فيها “ظابط” مهما حاول، طالما أن عمله في ثلاث ورديات لا يكفيه لأن يُوَرِّدَ خدود زوجته، ولا أن يرسم الفرحة في قلب أطفاله، ولا أن يكون راضياً عن نفسه وعن مآلات حياته.

الأب في سوريا يُقاوم انهياراته من الفجر إلى النجر، إذ عليه في كثير من الأحيان أن يكون عَتَّالاً بقوة 200 حصان، مع أن أفضل تبديل زيت حصلت عليه مفاصله كان من خلال أكلة مجدرة، على أساس أن البرغل فيها هو مسامير الرُّكَب

وفي سياق مشابه، يعلم الأب السوري أن عليه أن يكون مُرَبِّياً فاضلاً، بالرغم من إدراكه كَمِّ البذاءة وقلة الحياء في كل ما يحيط به، بالإضافة إلى ظروفه غير المنطقية التي لا تترك له وقتاً ليُربِّي غيرَ صَبْره، وأناته، أما أولاده فزوجته والزمن كفيلان بتربيتهم، لكنه مع ذلك يعزِّي نفسه بأن “جان جاك روسو” الذي امتلك كل الوقت حتى استطاع أن يضع ست نظريات في التربية، لكنه لم يستطع أن يطبق أياً منها على أبنائه، ويكتفي بأنه ما زال قادراً على أن يكون سَنَداً لعائلته، في وقت لا شيء يسنده سوى ذراعه المتعبة، وبقايا أعصاب ارتخت من كثرة الشَّدّ، وحنين إلى أيامٍ لم يكن فيها قادراً بعد على استيعاب مقولة إميل سيوران: “لو يعلم أولئك الأولاد الذين لم أنجبهم كم هم مدينون لي بالسعادة”، وغير ذلك الكثير، مما يجعل من الصدق القول: “في سوريا تحديداً، ما أصعب أن تكون أباً!”.

المصدر: رصيف 22