بعد موجة غضب قلت لنفسي لائمةً: “كلّ هذا لأن جواز سفري سوريّ”، كنتُ حانقة ولم أستطع إلقاء اللوم على أحد سوى “نفسي السوريّة”.
لطالما شعرت بالرعب من فكرة البقاء داخل سوريا، وبينما كان اللاجئون يعانون من فوبيا العودة إلى سوريا، كانت فوبيا أخرى تنمو في داخلي، فوبيا البقاء في سوريا إلى الأبد، “تخيل ما نقدر نطلع من هون”، لطالما عبرنا بهذه الجملة عن قلق البقاء عنوة.
خلال عشر سنوات لم أفقد الكثير من فرص التعليم والتطور على الصعيد المهني وحسب، بل فقدت بالفعل الكثير من فرص المشاركة في مهرجانات وفعاليات ثقافية وشعرية، فقط لأن جواز سفري سوري، فمرة تأتي الدعوة متأخرة، إذ لا يعلم المنظمون أننا، نحن السوريين، نحتاج إلى وقت طويل للبت في تأشيراتنا، في إحدى المرات لم تردَّ إحدى السفارات العربية على طلب تأشيرتي رغم تقديمي كلّ الأوراق المطلوبة! ولأن الأمور حين تتكرر تغدو أشبه بالمخاوف، بت أشعر بأن جواز سفري غير مرئي وأنني محتجزة داخله، قد تكون هذه المعاكسات محض مصادفات في تحصيل تأشيرة، لكنها حدثت بالفعل أكثر من مرة، وفي واقع الأمر لا يستطيع أحد اليوم إنكار أن هنالك أشبه باشمئزاز عالمي من جواز السفر السوري، الجواز الذي لا يمنح حامله أي حصانة أو حماية، فلا تسارع بلاده إلى إنقاذه أو إلى التدخل في حال تعرضه لمشكلة في بلد غريب، مع الوقت أدركت أن السجن في بعض الأحيان لا يعني سوى جواز سفر أو جنسيّة سورية.
قبل سنوات لم أتمكن من الانضمام إلى مهرجان شعريّ كبير في الخارج، لم يعلم المنظمون صعوبة حصول السوري على تأشيرة فأرسلوا الدعوة في وقت متأخر للغاية، لدى بعض الدول إجراءات صارمة بما يخص السوريين خوفاً من ذهابهم وعدم عودتهم، فالعالم بالفعل يغصّ بالسوريين اليوم ولا يحتاج إلى لاجئة إضافية، للمفارقة ليس من بين خططي اللجوء على الإطلاق حتى حين كان يمكن أن أعيش في بيروت من دون إقامة نظامية، رفضت وعملت حتى استحصلت على إقامة. بالعودة إلى المهرجان الشعري الذي لم أتمكن من حضوره، أذكر حينها أنني بكيت طوال الليل، استيقظت بعينين متورمتين وبقلب مغلق، أدرك اليوم أني لم أبكِ لأني خسرت فرصة كبيرة، بل لأنني شعرت بأنني عالقة، وأن السجن موجودٌ بالفعل، فقط لأنني سوريّة! كأن مخاوفي صارت واقعاً ملموساً.
حين خرجت من سوريا إلى لبنان، في لحظة ما شعرت بأنني عالقة ويستحيل أن أنتقل حتى إلى بيروت! والأخيرة كان الدخول إليها في الماضي إجراءً بسيطاً للغاية. استحضرت هذه اللحظة من الرعب على رغم تحضيري جميع الأوراق المطلوبة، حتى إنني احتفظت بنسختين من كلّ ورقة، إذ لا يعلم السوريّ ما قد يواجه على الحدود. حتى اليوم وبعد مضي أكثر من خمسة أشهر لي في بيروت تراودني كوابيس أرى نفسي فيها في سوريا ولا أدرك كيف رجعت محاولة العودة إلى لبنان مرة أخرى.
ماذا ننتظر من بلد نعجز فيه حتى عن الحصول على جواز سفر؟ إن كان هذا الجواز لا يتيح لنا الدخول سوى إلى 29 دولة، فلماذا يصعب استخراجه إذاً!
ربما من حسن حظي أنني جددت جواز سفري قبل شهر واحد من أزمة جوازات السفر في سوريا، إذ ما زال الآلاف ينتظرون الحصول على جوازات سفرهم، حين استلمت جوازي قال لي الموظف: من الجيد أنك حصلت عليه في هذا الوقت، هناك شحٌّ في مواد الطباعة! على الدوام هناك أزمات سورية وغدا استصدار جواز سفر من بينها، لا أعلم إن كانت المشكلة في مواد الطباعة حقاً أم أنها مجرد حجة لأزمة جديدة.
أفتح جواز سفري الخالي من تأشيرات الدخول إلا واحدة في مطار بيروت، إننا فقراء حتى بالتأشيرات، أبتسم، جواز سفري الأول انتهت صلاحيته بتأشيرة واحدةٍ يتيمة، أقول لا بأس فهناك من لم يحصلوا حتى على هذه التأشيرة، وهناك سوريون ما زالوا يركضون خلف جوازات سفرهم منذ أشهر من دون أن يلمسوها حتى.
من الجيد أن سوريا ليست في نهاية القائمة تماماً بعدد الدول التي يستطيع رعاياها الدخول إليها وهي 29 دولة لا غير، 10 منها لا تحتاج تأشيرة و19 تمنحه تأشيرة فور وصوله، يأتي بعدها العراق مع 28 دولة وأفغانستان مع 26 دولة، إذاً نحن ثالث أقل دولة في أعداد الدول التي تسمح لنا بالدخول إليها من دون تأشيرة، مع ذلك فهذه الدول تحدد مدة دخولنا! إحداها هي جزيرة توفالو المعرضة للانقراض بسبب ارتفاع منسوب مياه المحيط الهادي، يبدو منطقياً إذاً إمكانية السفر إلى هناك، اعتدنا كسوريين العيش في أخطر الأماكن في العالم، لا يمكن تجاوز الكوميديا السوداء في إمكانية الذهاب إلى جزيرة مهددة بالانقراض.
بالاطلاع على قائمة البلاد التي نستطيع، نحن السوريين دخولها، سنكتشف أن معظمها جزر وتعاني من مشكلات اقتصادية. الموزمبيق مثلاً، تشتهر بانتشار جماعات متشددة تدعو إلى نشر تعاليم إسلامية صارمة، أما بالو فهي أيضاً جزيرة، وهي تقريباً خالية من الطرق والمركبات لأنها عبارة عن جبال تقع في منطقة “حلقة النار” في المحيط الهادي، حيث تكثر الزلازل التي تودي بحياة كثيرين. أما بوليفيا وهي إحدى دول أميركا الجنوبية، فتعد من الدول المتخلفة التي لم تستطع الاستفادة من مواردها. إذاً وببحث بسيط سيدرك السوريون أن بعض البلدان التي قد يستطيعون الذهاب إليها ليست أحسن حالاً من سوريا. وبينما أقلب خياراتي الضيقة في الرحيل أقول لنفسي ما البلد الذي تودين الذهاب إليه؟ بلد الزلازل! بلد البراكين أم بلد قد يختفي في أي لحظة؟
المصدر: موقع درج