لا يريد السوريون سوى ماء بارد يطفئ حرائق الصيف والذلّ، لكن أقل ما يقال عن حياة كهذه أنها لا إنسانية، حتى الماء البارد ليس متوفراً، الحرارة أربعون.
في مساءِ يومٍ حار عجزتُ فيه عن العمل، حملتُ حاسوبي المحمول، ارتديتُ أخف فستان عندي، ربطتُ شعري، وذهبتُ إلى مقهى في دمشق القديمة حيث التكييف والكهرباء والماء البارد، ثم جلست لأكتب كيف يمضي السوريون يوماً حاراً آخر بلا كهرباء.
يقول الزوج بحسرةٍ، إنهم أخرجوا المؤونة الذائبة من الثلاجة بعد انقطاع الكهرباء لأكثر من 15 ساعة، كانت أكياس البازلاء والأرضي شوكي والفول وورق العنب قد أوشكت على فقدان برودتها تماماً وهذا يعني أنها ستفسد قريباً وتُرمى في القمامة، لذلك قررت العائلة توزيع ما لديها من مؤونة على الجيران والفقراء، فلا يمكنهم إنهاء كلّ هذا الطعام في يوم واحد. يقول الرجل: “ياكلها غيرنا أحسن ما تنكب بالزبالة”. تُخبِئ هذه العائلات الطعام لتأكله لاحقاً في شهور الشتاء، ومع الأزمة الاقتصادية الخانقة بات الطعام ثميناً جداً، ترصد لأجله العائلة ميزانية كل عام، لكنها اليوم مجبرة على منح طعامها لآخرين وقد تجوع بعد أشهر دون إيجاد بديلِ عنه!
غياب الكهرباء لساعات طويلة وضع السوريين أمام تحديات يومية وجديّة، لم يعد الماء البارد متوفراً، ارتفع سعر أكياس الثلج في المتاجر أضعاف ما كانت عليه خلال العام الماضي، حتى الثلج يتبع بورصة الفقر وانقطاع الكهرباء. تحولت الثلاجات إلى نملية ذات رائحة كريهة بعد فساد الأطعمة داخلها، حتى القطط تشمئز من روائحها وترفض الاقتراب منها ويضيع طعام دمشق هباء لا الإنسان يأكله ولا الحيوان، لكن أكثر ما يثير الغضب هو رائحة الثلاجة المتعفنة التي يصعب تنظيفها. وبعد بحث على الانترنت وجدتْ السيدة الثلاثينية الكثير من الطرائق للتخلص من الروائح الكريهة كوضع رغيف خبز وعليه القهوة المطحونة، قَطعُ ليمونة إلى نصفين ووضعها على الرفوف، إضافة إلى وضع قطع من الفحم، ولشدة غضبها وضعتها كلها لتدرك أنها باتت أكثر من الطعام، لا بأس ما يعنيها أن الرائحة اختفت وحلّ مكانها رائحة القهوة الشهية.
انقطاع الكهرباء لساعات طويلة يجعل الحياة ثقيلة وكئيبة، تغدو أصغر المهمات صعبة ومستحيلة، قد يبقى الغسيل داخل الغسالة ليوم كامل ريثما يغدو نظيفاً ويُعلّق على الحبال، القمصان المجعدة على الأجساد تقول إن الكهرباء غابت لساعات طويلة، وشعر الفتيات غير المسرّح أو المجدول يقول إنهن خسرن فرصة تصفيفه حين لم تأتِ الكهرباء سوى نصف ساعة يتيمة. حتى أشكال السوريين وطريقة لباسهم وأناقتهم تتغير تبعاً لمواعيد الكهرباء، الأعمال المكتبية التي تحتاج حاسوباً تتعطل، فأي حاسوبٍ قد يعمل بدون كهرباء لـ6 أو 9 ساعات!
يرتفع “التستسرون” في الأجساد فيغدو الغضب سمة عامة، تجدها في كلّ مكان من حولك ويجب التعامل معها، الجميع غاضب من الحرّ وغياب الكهرباء وأنت المخنوق مثلهم تتحمل غضبهم واشمئزازهم منك.
يوم طويل من الظلام
الأجساد تتصبب عرقاً، الروائح الكريهة تملأ الأمكنة ووسائل النقل، مزيلات التعرق كأي شيء هنا، أسعارها مرتفعة ولا يستطيع الجميع شراءها. هل نستطيع لوم السوريين على روائح أجسادهم الكريهة؟ هل نلومهم على جوعهم؟
لا يريد السوريون سوى ماء بارد يطفئ حرائق الصيف والذلّ، لكن أقل ما يقال عن حياة كهذه أنها لا إنسانية، حتى الماء البارد ليس متوفراً، الحرارة أربعون.
أقرر فور عودتي إلى المنزل المظلم والحار شراء مروحة تعمل على الشحن، ستكون جيدة لأتنفس وأكتب خلال ساعات قطع الكهرباء الطويلة، وهكذا أشعر كما لو أنني أعمل حتى أشتري أشياء تشعرني بأنني آدمية لا أكثر.
لا أعمل كي أخرج في سياحة أو لأذهب في عطلة الأسبوع إلى حفلة ما، أعمل لأحافظ على ما بقي من إنسانيتي، لا أتخيل مكاناً في العالم يعمل سكانه حتى يشتروا مروحة على الشحن حتى يستطيعوا العمل أو النوم!
إضاءة “الليدات” هي من أنواع الإضاءة البديلة التي تعمل على الشحن، وتنتشر في كلّ منازل السوريين، نتمسّك بضوء الليدات من دون التفكير للحظة بمساوئها وتأثيرها السيئ بشبكة العين أو بتأثيرها في طريقة نومنا وجودته، إنها السخرية بعينها، ما معنى جودة النوم للسوريّ أو سلامة عينيه؟ كل هذا لا معنى له أمام يوم طويل من الظلام. ولأنني اعتقدت أنني لن أقيم طويلاً في منزلي المستأجر ماطلتُ في تمديد إضاءة الليدات إلى جميع الغرف والمطبخ، واكتفيت بإضاءة غرفتين وحسب، عانيت الفترة الماضية بشدة من العتمة واستخدمت ضوء الفلاش الخاص بالموبايل في أحيان كثير للطهو أو للتنقل بين الغرف، وحين مددت الإضاءة إلى جميع أنحاء المنزل، شعرت بطمأنينة كبيرة حتى أنني نظرت إلى صديقتي وقلت لها “متى سيأتي الليل وتنقطع الكهرباء لاستمتع بالأضواء الجديدة؟”، ثم شعرت بالحجم الكارثي لسؤالي، لماذا تحملت كل تلك الفترة بدون إضاءة جيدة، على رغم قدرتي على تركيبها؟ وعرفت معنى أن تُدجن من دون أن تشعر.
النزوح الثاني هرباً من الحرّ
الحالة الثابتة الوحيدة بين السوريين هي الشكوى، وبخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي وكأنَّ “فايسبوك” هو المكان البارد الوحيد الذي يستطيع السوريون الشعور بالراحة فيه، ينتشر الأهالي أمام منازلهم في الأحياء العشوائية، باحثين عن نسمة باردة تخفف وطأة اختناقهم، أو يصعدون إلى السطوح ملاحقين برودة الليل المتأخرة ويستيقظون مع طلوع الشمس قبل أن تلذعهم الحرارة المبكرة. العتمة تنتشر كوباء، مانعة السوريين من أبسط ملذاتهم، حتى نهائي كأس سوريا لكرة القدم لم يسلم من الغياب المفاجئ للكهرباء، لتنقطع عن ملعب تشرين وسط العاصمة دمشق خلال مباراة بين فريقي حطين وجبلة، وقد استخدم الجمهور الهواتف المحمولة للإضاءة. هذه ليست المرة الأولى في كل حال، تغيّر توقيت إقامة بعض المباريات في السنوات الماضية لتتوافق مع موعد وصول الكهرباء! في كل الأحوال يبدو أن الجهات الرسمية تحمّلنا نحن المواطنين مسؤولية غياب الكهرباء كل هذه الساعات، بسبب الاعتماد الزائد على الطاقة الكهربائية، ماذا يتوقعون منا بالضبط، هل هناك خيار آخر لإضاءة منازلنا وتشغيل ثلاجاتنا!
على طول طريق المطار تنتشر العائلات الخارجة من البيوت الضيقة في الأحياء الشعبية المكتظة، عائلات بأكملها تشترك وتصعد في سوزوكي تعود لإحداها، تحمل طعامها وتساليها الرخيصة، وتفترش جوانب الطرق. لطالما شعرتُ بأن افتراش هذه العائلات طريق المطار ليس أمراً عابراً، “المطار” هو حلمُ معظم هذه العائلات، حلم الصعود في أول طائرة والرحيل، تاركةً كل شيء خلفها، لكنها في الحقيقة لا تملك سوى عشب طريق المطار وأشجاره، لترتاح من عناء يوم حار وتمنح أطفالها فرصة للعب في مساحة واسعة، ولولا أننا نعرف هذا المشهد لاعتقدناه مشهد نزوح جديداً، إثر حرب جديدة لكن الناس هنا ينزحون من بيوتهم هرباً من الحر وحسب، حيث لا منتزهات أو حدائق يلتجأون إليها. عدد الحدائق وأحجامها تتقلص كما تتقلص مساحات السوريين وأحلامهم يوماً بعد آخر.
أعود من المقهى ليلاً، بات الحر أكثر رحمة، الشوارع معتمة، أشغّل فلاش هاتفي لأضيء طريقي، ما زال الجيران يجلسون أمام المنازل، بانتظار الفرج…
المصدر: موقع درج