بحث
بحث
أعيش في دمشق : مدينة الشتائم
درج

أعيش في دمشق: مدينة الشتائم

لا أحد يختار العيش وسط الشتائم، لا أحد يختار الغضب إلّا إذا شعر بتلك الخسارة تضرب حياته عميقاً وأدرك أنه مهزوم والقوة الوحيدة التي يمتلكها هي الشتيمة.

الشتائم هي لغةُ السوريين الجديدة في مواجهة الحياة، باتت وجهاً من أوجه دمشق، طريقة للتواصل والتعبير عن الغضب والكره والمقاومة. إنهم يواجهون الأيام والذل بشتائم مبتكرة، لعلهم هكذا يتأقلمون مع الجوع وانقطاع سبل الحياة، في دمشق الشتائم أكثر من الأحلام.

نُجبر على الشتم
منذ مدة أدركت أن الشتائم تحاصرني في كل زاوية، في كلّ مكان أذهب إليه، ابتداء من ابن الجيران (6 سنوات) الذي يشتم طوال الوقت، بينما تقول له أمه: “يا جحش عيب”، إلى الأم التي تخرج حاملة طفلتها الرضيعة وتشاهد عراكاً بين رجلين في الجوار، يطلقان شتائم من العيار الثقيل لكن الأم تبقى واقفة عند الباب وتراقب الشجار. أدخل بسرعة إلى المنزل وأرفع صوت الموسيقى. في يوم استيقظت مذعورة، بسبب أصوات شتائم الآتية من مكان قريب. وحين خرجت إلى فسحة المنزل كان الجيران الساهرون على السطح يتشاجرون، استمر الرجل الغاضب في إطلاق الشتائم حتى قال أحدهم: “برحمة أخوك الشهيد توقف”، هكذا وفجأة صمت الجميع وأوقف “الشهيد” سيل الشتائم المقززة.

مع الوقت يبدو كما لو أنكِ تأقلمتِ مع الكلمات البذيئة وبخاصة تلك التي تمسّكِ كامرأة، يحدث ذلك لكثرة ما ترددت هذه الكلمات ولكثرة ما مررت قرب أصحابها الذين تجاهلوك تماماً أو حرصوا على أن تسمعي المزيد منها. أدركتُ أنني أعيش وسط الشتائم حرفياً، حتى اعتدت سماعها، وباتت لدي تشكيلة واسعة منها، مؤونة كاملة.

أن تعيشي وسط حفلات الشتائم الدمشقية، يعني شتمكِ حين تصرخين لإيقاف رجل تحرّش بك، كما يشتمك المتسول إذا لم تمنحيه المال الكافي، وأطفال الشوارع من أجل ورودهم التي لم تأخذيها، وسائق الأجرة يغسلك بالسباب لأنك لم تصعدي معه أو لأنك نزلت مبكراً حتى لا تسمعي المزيد من غزله وترهاته…

في عائلتي لا يميل أخي إلى إطلاق الشتائم، سوى نادراً، وحين يفعلها نصمت جميعاً لأننا ندرك أنه يتألم وطاقته على التحمّل نفدت. إنه يريد حياةً أفضل لعائلته ولطفله الصغير. أما والدتي فتشتم كثيراً وكل شيء، الناس، النظام، الحياة… ربما لذلك هي أكثرنا تصالحاً مع المأساة. 

مرة كانت مأخوذة بشتم النظام خلال اتصال مع صديقتها، خفنا عليها يومها من الاعتقال. منذ ذاك الحين صارت تُحرّف الأسماء فتقول: “هاد الي فوق”، أو تضيف ضمير الغائب، فندرك أنه ضمير الأسد المشتوم.

للشتائم أنواع في دمشق
للشتائم أنواع هنا، شتائم خلف الأبواب تُهمَسُ همساً وشتائم صوتها مرتفع، تُطلَقُ شتائم ما خلفَ الأبواب بحق الأسد وعائلته والحكومة والمسؤولين، كلام بذيء يمنحُ الأرواح الغاضبة راحةً موقتة، وقدرةً على الرفض والاحتجاج وتفريغ الألم. تسألني أمي: “هلق بشار الأسد قاعد بلا كهربا؟” ثم تشتمه، أضحك على كلماتها البذيئة جداً، تستعير النساء أعضاء الرجال لشتم الرجال، أمي الطيبة تغضبها القلّة، قلّة الحياة والكهرباء وغاز الطهو والخبز، لكن سؤالها مؤلم جداً، فهل الأسد جرب لمرة العيش بدون كهرباء؟ الأمر لا يتعلق بالأسد وحده، فالكهرباء أيضاً لا تنقطع عن الكثير من الأحياء الغنية في العاصمة، هناك حيث يعيش الوزراء والمسؤولون والأغنياء الذين لا يشعرون بالحرّ والتعب، مثلنا نحن شاتميهم من خلف الأبواب. المشكلة ليست في قلة الكهرباء إنما في الرغبة في إذلالنا أكثر.

أمّا الشتائم ذات الصوت المرتفع فهي تلك التي يطلقها السوريون في الشوارع وأمام المحال وفي وسائل النقل وفي الطوابير، بتَّ تسمع عدداً لا ينتهي من الشتائم في الشوارع. هل هي بديل عن الثورة والغضب؟ لا أستطيع تبرير صمتنا أمام كلّ هذا الظلم في بعض الأحيان، يجب أن نصرخ ونقول “يسقط”، يجب أن نثور، لكنني أعود لأبرر هذا الصمت حينما أفكر ماليّاً بأن عدونا ليس السلطة وحسب، أعداؤنا كُثر، الكثير من الدول التي تفرض سلطتها على أرضنا، لو كان عدو السوريين الوحيد هو النظام لانتفض منذ مدة طويلة.

الشتائم أنواع في دمشق، يستخدم البعض اللغة الإنكليزية، كسبيل إلى التحضّر، فلا يجوز قول “خراء” بالعربية لكن يمكن قول “SHIT”، كم نحن حزانى حين نقلب القذارة إلى لغة أجنبية لنبدو أقل فجاجة، متناسين أن الفجاجة هي ما نعيشه لا غير.

للشتائم أنواع، بعضها للمزاح والتعبير عن المحبة، يتبادلها الأصدقاء، لا ضير في ذلك، لا يغضب الرجال من أصدقائهم إذا شتموا أمهاتهم فهم يعلمون أن ليس في نيتهم النوم حقاً معهن، فيما قد يحدث عراك إذا شتم أحد والدة آخر في شجار حقيقي، النساء دوماً ضحايا الغضب والمحبة.

حصّة الأطفال من البذاءة
حتى الأطفال تعلموا لغة السباب، أطفال لم يتجاوزوا العاشرة يتعاركون ويشتمون بعضهم بعضاً، يضع طفل “سندويشة” الفلافل جانباً ويتوجه إلى آخر يبيع الدخان على بسطة صغيرة، يمسكه من كنزته ويشتمه، ثم ينظر نحوي ليتأكد أن رجولته المبكرة وصلتني، أتذكر عينيه جيداً، كأنّ الشتائم لا تخصّ المشتوم بل كلّ من يسمعها، ووجِدت من أجلنا نحن الفتيات… وجدت لنسمعها

لم يعد مزعجاً سماع الأطفال يطلقون كلمات نابية، بعد هذه السنوات لا بد أن تظهر آثار الكره والفقر والجهل. مرة صادفت صبياً في أحد مراكز إيواء الأطفال الذين فقدوا عائلاتهم في الحرب، كان عنيفاً بخاصة مع رفاقه، يطلق شتائم مخجلة، على رغم عدم تجاوزه الست سنوات. يوم زرناهم أصدقائي وأنا من أجل بعض الأنشطة والألعاب، علّمناهم أغنية عن الفرح، رفض الطفل في البداية الغناء، وحين قلت له سأغني معك راح يدندن الأغنية ثم غناها مرة أخرى بمفرده وبصوت عالٍ، حين انتهى ركض نحوي، فتحتُ له يداي وعانقني بقوّة، كان مثيراً تغيّر طفل خلال مدة وجيزة، فقد خفّت عدوانيته بالفعل ولم يعد يطلق الشتائم، أفكر بذلك الطفل بعد أكثر من ست سنوات، هل وجد من يغني معه، هل نسي العنف والشتائم؟

لا أحد يختار العيش وسط الشتائم، لا أحد يختار الغضب إلّا إذا شعر بتلك الخسارة تضرب حياته عميقاً وأدرك أنه مهزوم والقوة الوحيدة التي يمتلكها هي الشتيمة.

المصدر: موقع درج