من مدينة صور الجنوبية هذه الشهادة التي تروي بعضًا من أحوالها في زمن التعبئة والتجنيد اللذين اتبعهما “حزب الله” لحضّ فتيانها وشبانها على القتال في سوريا ضد ثورة شعبها، وإلى جانب نظام بشار الأسد. وقد روى هذه الشهادة شاب من صور ونشأ وتربى فيها.
“قوقعة” مصطفى خليفة
كانت قد مضت أكثر من سنة على بداية الثورة السورية لما قرأتُ في الرابعة عشرة من عمري كتاب “القوقعة” لمصطفى خليفة، فهالني وروعني ما قرأتُ فيه عن سجون نظام حافظ الأسد: شهادة روائية ملحمية في سوداويتها عن مسالخ بشرية، كشفت لي وقائعها حقيقة ذاك النظام الذي راح “حزب الله” يرسل مقاتليه ومجنديه للدفاع عنه ونصرته على ثورة السورين عليه للخلاص منه ومن سجونه – المسالخ البشرية.
وقبل قراءتي “القوقعة” لم أكن أقوى بعدُ عن التعبير بسهولة عن عدم قناعتي بما يقوله “حزب الله” ويذيعه في تعبئته العامة في صور ضد الثورة السورية، تمهيدًا لقتاله إلى جانب نظام الأسد، فزودني ذاك الكتاب – الشهادة الحية عن سجونه التي ليست سوى مرآة خفية ولما فعله ويفعله بالسوريين، وذهب “حزب الله” إلى ديارهم ليساعده في أفاعيله، التي لا يمكن لقضية مهما كبُرت أو صغرت أن تسوِّغها وتمنحها ذرة من الصدق والحق. فأي قضية يمكنها أن تبرر ذلك المسلخ البشري الذي وصفه خليفة في قوقعته؟!
لذا حملني ما قرأت في كتابه – الشهادة على حسم خياري وموقفي من نظام الأسد وداعميه جميعًا: لم أعد قادرًا على التسامح معهم، بعدما بدت لي أقاويلهم كذبًا خالصًا. فعزفت عزوفًا كاملًا وحاسمًا عن تصديق تلك البروبغندا التي يذيعها “حزب الله” وأنصاره، ولم أعد أطيق سماع كلمة واحدة عن قضيتهم التي يقولون إنهم ذهبوا إلى سوريا لنصرتها. وفي المقابل ازددت يقظة وانتباهًا لما يدور حولي في صور، فرحتُ أتتبع أخبارًا ومعلومات عن مجندي “حزب الله” الصوريين للقتال في الديار السورية. وهي في الحقيقة والواقع أخبار مطروحة في الطريق وعلى الملأ في مجتمع مدينتي المحلي وبين أهلها، مهما حاول الحزبُ إياه التسترَ عليها، خنقها وإبقاءها في دوائر ضيقة من المجتمع الصوري.
مجندون وقتلى
أعرفُ فتيانًا وشبانًا كثيرين من صور وجوارها جنّدهم “حزب الله” وساقهم إلى القتال في سوريا، فقُتِل بعضهم هناك وعادوا “شهداء”، فشيّعوا في مآتم حزبية إلى مقابر ديارهم وأهلهم الذين ساروا في جنازات إبنائهم غاضبين ساخطين. لكن بعض المجندين لم يعد حيًا ولا “شهيدًا” إلى دياره، بل أختفى أثره في ديار الحرب السورية، وعبثًا حاول أهله أن يعلموا خبرًا عن اختفائه وماذ حلّ به في تلك الديار. وبعض المجندين الصورين، العائدين أحياء و”شهداء” إلى ديارهم وأهلهم، كانوا رفاقًا لي في طفولتي على مقاعد الدراسة في المرحلة الإبتدائية بمدرسة “المصطفى” التابعة لـ “حزب الله” في صور. ومن جيراننا في الحي الذي نسكنه، أعرف أربعة شبان جندوا وقاتلوا في سوريا، فقتلوا هناك وشيّعوا “شهداء” في صور.
أما العدد الأكبر من المجندين فكانوا يقيمون في محلة سكنية تدعى الحوش، ولا تبعد من صور مسافة لا يستغرق اجتيازها في السيارة أكثر من دقائق عشر، وكان لي فيها أصحابًا كثرًا أزورهم في بيوتهم بين وقت وآخر. وتطغى على الحوش بيئة “حزب الله” لا سيما في حي الجامع، الأكثر فقرًا واكتظاظًا بين أحيائها. وللحزب إياه في ذاك الحي مركز أو مقر للاستقطاب والتأطير والتجنيد. ويخفت طغيان “حزب الله” ويتضاءل تدريجيًا في أحياء الحوش الأقل فقرًا، وصولًا إلى المرتاحة ماديًا واجتماعيًا. وفي بعض زياراتي أصحابي هناك، لاحظت أن شوارع أحياء الحوش الأفقر كانت تخلو تقريبًا من الشبان في أوقات اشتداد التعبئة الحربية للقتال في سوريا، وعندما كان نظام بشار الأسد مهددًا بالسقوط.
وأذكر حادثة وقعت في الحوش في مناسبة الاحتفالات بعاشوراء: نشب شجار بين عناصر من “حزب الله” على حاجز عسكري لهم وعائلة في سيارة تجاوزت الحاجز، فأطلق مسلحوه النار على السيارة وقتلوا شخصًا من ركابها. ولم تسكت العائلة على الحادثة وقتيلها، فبادر مسلحوها – على غرار العشائر البعلبكية في ثاراتها المتبادلة، أو في نزاع إحداها مع “حزب الله” – إلى الاستنفار والاشتباك مع مسلحي الحزب إياه من دون أن يسقط قتلى جددًا من الطرفين.
تمرد مقاتلين وأهل قتلى
وأعرف شبانًا من صور جُندوا وقاتلوا في سوريا، وراحوا يتذمرون مما عاشوه وشاهدوه وفعلوه هناك أثناء قتالهم في الديار السورية، بعد عودتهم منها إلى أهلهم وديارهم في صور. ومن هؤلاء شبان ثلاثة انقلبوا على “حزب الله”، وخرجوا من صفوفه وصاروا ضده، لكثرة المجازر التي عاشوها وشاهدوها في سوريا، وبعضهم شارك فيها. أحدهم روى أنه كان يقصف أحياء سكنية بالمدفعية. وقال آخر إنه لم يعد يقوى على تحمِّل ما شاهده من قتل سوريين مدنيين. وأجمع الثلاثة على شكوكهم في القضية التي جُندوا وعُبئوا للقتال في سبيلها. فأي قضية هذه التي تدفع إلى قطع رؤوس القتلى والتمثيل بجثثهم، وإلى دفن جرحى أحياء؟! وهذا ما يرويه بعض مقاتلي “حزب الله” عن حربهم في سوريا، ساخطين قائلين: لا، لم نستطع أن نقاتل إلى جانب من رأيناهم يرتكبون تلك الأعمال، بصرف النظر عن أي عقيدة سياسية.
وكنت أعرف شابًا وأجالسه في مقاهي صور، ثم جنده “حزب الله” وساقه للقتال في سوريا، فعاد بعد مدة قتيلًا وشُيّع “شهيدًا”، فسرت في جنازته الحزبية التي سار فيها أهله وأقاربه غاضبين ساخطين، فأطلق بعضهم سيلًا من الشتائم الدينية تعبيرًا عن سخطهم ممن ساق ابنهم إلى الموت. ولما أقاموا عزاءً في بيتهم ذهبتُ إليه، فرأيت والد القتيل يطرد من بيته عناصر “حزب الله” وأنصاره الذين توافدوا إليه معزين. لكن كثرة الزيارات والضغوط الاجتماعية التي اعتمدتها جماعة “حزب الله” سبيلًا إلى حصار والد “الشهيد” وأهله، أدت بعد مدة إلى إخماد غضبهم وسخطهم على فقد ابنهم وعلى الحزب الذي ساقه إلى الموت في سوريا.
وأعرف أخوين من صور جند “حزب الله” أكبرهما في التاسعة عشرة من عمره وأخذه للقتال في سوريا، فاختفى أو فُقد هناك ولم يعد ولم يعلم أهله شيئًا عن مصيره. وبعد مدة دفعت النقمة أخاه الأصغر إلى أن يتجند في السابعة عشرة من عمره ويذهب الى سوريا. كأنه استجاب لنداء أخيه الأكبر المفقود والمجهول المصير، فعاد من هناك بعد مدة قتيل ذاك النداء الأخوي. وماذا يمكن القول عن عائلة الأخوين هذه، سوى أنها نُكبت بفقد ولدين في أقل من سنة واحدة، شأن عائلات أخرى سِيقَ أبناؤها إلى الموت ليبقى نظام “القوقعة” ومسلخها البشري حاكمًا في الديار السورية؟
قتلى مجهولون وغرباء
ويعلم كثر من أهالي صور أن “حزب الله” في بدايات مشاركته في الحرب السورية، أقام في مدينتهم مواكب تشييع “شهداء” ليسوا من عائلات صور ولا من بلدات قضائها. وقد شاعت بين الصوريين تساؤلات وتحليلات كثيرة عن غاية الحزب إياه من دفن أولئك “الشهداء” المجهولين أو الغرباء في المدينة المحلية التي يصعب – إن لم يكن يستحيل – أن يوارى الثرى في مقابرها “شهداء” لا تدري عائلات المدينة وبلداتها المجاورة من يكونون، ولا ينتسبون إليها.
وأنا كنت قد حضرت موكب تشييع أحد أولئك الغرباء، وشاركت في اللغط والتحليلات التي ترددت كثيرًا على ألسنة الصوريين عن غاية “حزب الله” من ذلك: محاولته إقناع الصوريين، في بداية قتاله في سوريا، بأن شبانًا من مدينتهم استجابوا حملته الدعائية للقتال و”استشهدوا” هناك.
فالشهداء والاستشهاد أقوى وسائل الحزب إياه في غرس آلته التنظيمية الحزبية في قلب شبكات الاجتماع العائلي والأهلي التي يجذبها ويضمها إليه: فكلما سقط شهيد من عائلة ما، تصير هذه العائلة أو تلك، بالقوة وغصبًا أو بالاستدراج والإرادة، “عائلة شهيد”، ويصير والده “والد الشهيد” وكذلك أمه وأخته وأخوه. وهؤلاء كلهم يصير شهيدهم “ابن حزب الله” الذي يعني تخلي العائلة عن حزبه – الأب، تخليهم عن الابن والأخ الشهيد. والشهيد إن لم يجلب شهيدًا آخر وشهداء آخرين من العائلة، فيكفي أن يكسب الحزب إياه ولاء عائلته.
وكان أولئك “الشهداء” الغرباء الذين دفنوا في صور وألصقت على جدران شوارع في المدينة صورهم المذيلة بأسمائهم، تقول للصوريين إن مدينتهم توالي “حزب الله” وتؤيد قتاله في سوريا. وهذا يذكِّر بما حصل سابقًا في الثمانينات: أقدم “حزب الله” على أن يشتري من أهلِ شهداء قبورَ أبنائهم الذين كانوا في “حركة أمل” و”استشهدوا” في عمليات مقاومة “الحركة” الاحتلالَ الإسلائيلي بعد العام 1982، عندما لم يكن لـ “حزب الله” من وجود بعدُ. وبعد شرائه أولئك الشهداء “الحركيين” من أهلهم، قام الحزب إياه – مقاومته الوليدة في العام 1985 وما بعده على انقاض المقاومات السابقة – باستبدال شواهد قبور شهداء “أمل” الذين اشتراهم بشواهد أخرى يُدَوّن علها أنهم شهداء “حزب الله”، لثبت بذلك أنه هو أم “المقاومة” وأبوها ورائدها، وليس من “مقاومة” قبله ولا بعده. وقد سمعتُ في صور أخبارًا كثيرة من قدامى “حركة أمل” عن شراء شهداء “حركيين” من أهلهم بمبالغ تتراوح ما بين 500 وألف دولار، واستبدال الشواهد “الحركية” لقبورهم بأخرى لـ “حزب الله”.
الدولار والحصار
أما تجنيد “حزب الله فتيانًا وشبانًا صوريين للقتال في سوريا، فتتراوح كلفة الواحد الشهرية منهم ما بين 500 – 700 دولار. والمجند الشهري براتب أدنى (500 دولار)، غالبًا ما لا يتجاوز عمره 18 سنة، ويخضع لدورة تدريبية سريعة (10 – 15 يومًا) قبل إرساله إلى جبهات القتال السورية مدة تتراوح ما بين 15 – 30 يوم، يعود بعدها إلى أهله ودياره للراحة والاستجمام. وأهل هؤلاء المجندين غالبًا ما يرفضون ويمانعون تجنيد أبنائهم، وينقمون بصمت على “حزب الله”. وبعضهم يسكتهم العوز والحاجة والمبلغ المالي الذي يتقاضاه ابنهم المجند وينقذه من البطالة، ويحسِّن أحوال أهله المعيشية الصعبة. لكن من هم أكبر سنًا ويكونون من مقاتلي الحزب إياه، فيمكثون أوقاتًا طويلة في سوريا، ويتقاضون 700 دولار شهريًا، ومنهم من تطول مدة مكوثهم على جبهات القتال أكثر من سنة.
ومن يُقتل من هؤلاء، وينقم أهله على “حزب الله” ويعلنون نقمتهم في البداية، سرعان تتلاشى هذه النقمة جراء الحصار والضغط الاجتماعيين الذين يتّبعهما الحزب إياه لعلاج تذمرهم واسكاتهم: فإلى استمرارهم بتقاضي مرتب شهري لقاء “استشهاد” ابنهم، هناك زيارات تستمر هيئاتٌ حزبية في القيام بها لأهالي “الشهداء”. وهي هيئات كثيرة: الهيئة النسائية، الهيئة الاجتماعية، أمهات الشهداء. ولمشايخ “حوب الله” نصيبهم من زيارات والد الشهيد وإخوته. وألسنة أعضاء هذه الهيئات والمشايخ تردد دائمًا: أنتم وابنكم في الجنة، والسيد نصر الله يسلم عليهم وراضٍ عنكم، وكذلك الإمام علي وسائر الأئمة وآل البيت.
أما أنا من أروي هذا كله فلا ألوم الناس الذين تعرضهم ظروفهم إلى مثل هذه الأقدار، وأقول: الله وحده يساعد هؤلاء الناس على مصابهم ومصائبهم. ولمن يوالي “حزب الله” ويسير في ركابه أقول: نموذج الحياة الذي يقدمه هذا الحزب للناس يتجلى في بعلبك والضاحية الجنوبية، بل في ضواحي تلك الضاحية. فالنسبة الكبرى من قتلى الحزب إياه في حروبه السورية، ليست من الجنوب، بل من بعلبلك والضاحية.
المصدر: صحيفة المدن