تمثّل شركة دمشق الشام القابضة المساهمة المغفلة الخاصة، المحرّك الرئيس لمشاريع إعادة الإعمار التي يخطّط لها النظام في دمشق، وهي خلاصة التزاوج بين القطاعين العام والخاص في سوريا ما بعد الحرب، ضمن صيغةٍ تتيح لشركةٍ خاصةٍ إدارة أملاك الدولة. كما تمثّل الشركة معبراً إجبارياً لرجال الأعمال الراغبين في التعاقد لإنشاء عقارات ضمن المناطق التنظيمية المُعلَنة في دمشق ومحيطها القريب.
المشروع البحثي “زمن الحرب وما بعد الصراع في سوريا” في برنامج مسارات الشرق الأوسط الذي يشرف عليه مركز روبرت شومان للدراسات العليا بالجامعة الأوروبية في فلورنسا، نشر ورقة للكاتب محمود اللبابيدي بعنوان “رجال أعمال دمشق: أشباح ماروتا سيتي“، تناول فيها نشأة ودوافع وتطور “شركة دمشق الشام القابضة”.
تمويل شركة دمشق الشام القابضة
محافظة دمشق كانت قد أطلقت الشركة في العام 2016، استناداً إلى المرسوم 19 للعام 2015، الذي وُضِع لحلّ أزمة تمويل مدينة “ماروتا” وغيرها من المشاريع التنظيمية. فالمرسوم رقم 2012/66 كان ألقى على عاتق المحافظة مهام هائلةَ لتطوير المناطق التنظيمية كـ”ماروتا سيتي”، غير أن التحدّي الأساسي بقي البحث عن تمويلٍ لهذه المشاريع.
وبالتالي نصّت المادة 20 منه على إحداث صندوق خاص لكلّ منطقة تنظيمية في المحافظة، يُموَّل من الاعتمادات السنوية اللازمة التي تُرصَد في الموازنة المستقلّة، وعبر قروضِ من المصارف المُعتمَدة. وقد تمكّنت مديرية تنفيذ المرسوم 66 من الحصول على قرضٍ مبدئيّ بقيمة 20 مليار ليرة سورية (45 مليون دولار) من المصرف التجاري السوري الخاضع للعقوبات، لتنفيذ البنى التحتية في “ماروتا سيتي”. مع ذلك، ظلّت أزمة التمويل والتنفيذ قائمة. فقد بلغ إجمالي النفقات في مشروع خطة الموازنة المستقلة لمحافظة دمشق للعام 2018، ملياراً و100 مليون ليرة سورية (2.44 مليون دولار)، في حين أن إجمالي موازنتها بلغ 11 مليار ليرة سورية (24.44 مليون دولار)، يُنفَق أكثر من نصفها على تقديم الخدمات لمناطق العشوائيات.
وهكذا، أتاح المرسوم 19 إنشاء شركة سورية قابضة مساهمة مغفلة خاصة تتولّى إدارة واستثمار أملاك الوحدة الإدارية أو جزء منها، ومنحَها الحقّ في تأسيس شركات أموالٍ أو المساهمة فيها وإدارتها. وفي سابقةٍ خطيرة، بات من حقّ شركة قابضة خاصة استيفاء الرسوم والأقساط، ومنح التراخيص، والتعاقد مع شركاتٍ أخرى بشكلٍ مستقلّ، إضافةً إلى تولّي مهام صناديق المناطق التنظيمية المُحدَثة، وتحصيل الأقساط، ومتابعة سداد القروض وفوائدها. ثم جاء قانون التشاركية بين القطاع العام والخاص ليرأب الصدع بين الشركة القابضة الخاصة، وبين المحافظة أو الوحدة الإدارية العامة، ويمكّن القطاع الخاص من المشاركة في المشاريع العائدة ملكيّتها إلى القطاع العام. بيد أن القانون أتاح للقطاع الخاص قابلية الهيمنة على هذا الأخير، مُعطياً الشركات الخاصة الحقّ في حيازة أكثر من 51 في المئة من أسهم أيّ مشروع شراكةٍ مع القطاع العام، ناهيك عن أن الشركة القابضة الخاصة لا تُلزَم بدفع أي مستحقّاتٍ للدولة نتيجة بيعها حصصها في المشروع المشترك.
وتملك شركة دمشق الشام القابضة رأسمالٍ قدره 60 مليار ليرة سورية (133 مليون دولار). وقد نُقِلَت ملكية العقارات التي تعود للمحافظة في “ماروتا سيتي”، إلى الشركة لتستثمر فيها بدلاً من بيع عقاراتها بالمزاد العلني، بما يسهم في توفير السيولة النقدية لتنمية المنطقة التنظيمية. لكن الأمور على الأرض تبدو مبهمةً، إذ تصعب معرفة الفروق الدقيقة بين حدود صلاحيات محافظة دمشق ومديرية تنفيذ المشروع 66 التابعة لها، وبين تلك العائدة إلى شركة دمشق الشام القابضة، في ما يتعلّق بعمليات الاستملاك والتنفيذ. هذا ناهيك عن أن المحافظ هو أيضاً رئيس الشركة القابضة الخاصة المعنيّة بإدارة أملاك المحافظة.
ترأّس مجلس إدارة الشركة بشر الصبان، منذ تأسيسها حتى إقالته من منصبه كمحافظ دمشق في تشرين الثاني 2018، بموجب مرسومٍ جمهوري. عزلُ الصبان، وهو سنّي دمشقي، جاء متزامناً مع المرسوم الجمهوري 360/2018 القاضي بتغيير وزراء في الحكومة، ما يشير إلى أهمية الصبان التي تتخطّى كونه محافظاً. فهو المحافظ الوحيد الذي أُعفي من منصبه عقب انتخابات الإدارة المحلية في نهاية العام 2018، ويُعتبَر عميد المحافظين بعد أن أمضى أطول مدّة لمحافظٍ في منصبه، وهي 12 عاماً. ويُعتقَد أن إعفاءه جاء بسبب العقوبات الأوروبية عليه، خشية إعاقة العمل بمشروع “ماروتا سيتي”، وإخافة المستثمرين الراغبين في التعاقد مع شركة دمشق الشام. وكان الصبان وُضِع على قوائم العقوبات الأوروبية منذ العام 2016 لدوره في قمع السوريين، وهو مُقرَّب من الإيرانيين، إذ زار طهران مرّات عدّة حيث أدلى بتصريحاتٍ مثيرةٍ للجدل. ويُتَّهم الصبان بمحاولة تغيير النسيج العمراني لدمشق، وتدمير بعض المواقع الأثرية المهمة، لصالح مشاريع يُقال إن إيران تقف خلفها. وقد اضطّلع أيضاً بدور محوري في تشكيل شركة دمشق الشام، ويُعتقَد أنه كان أحد أهم مهندسي علاقتها بمحافظة دمشق، علماً أنه يملك مقاسم عدّة في “ماروتا سيتي”، اشتراها قبل إعلان المشروع التنظيمي فيها.
مصادرة العقارات واستملاكها
يكشف مشروع “ماروتا سيتي” كيفية استيلاء محافظة دمشق، وبالتالي شركة دمشق الشام القابضة، على العقارات في مخطّطها التنظيمي. وإذا كانت صيغٌ قانونيةٌ جديدةٌ قد ظهرت كالقانون 10/2018، وتعديلاته في القانون 42/2018 ، فإنها استندت إلى قانون مصادرة واستملاك الأراضي الرقم 20 للعام 1983، الذي يعطي تلك الأراضي صفة النفع العام بما يبرّر الاستملاك لتنفيذ منشآت خاصة بحزب البعث والمنظمات الشعبية. كما أنها استندت إلى القانون الرقم 60 للعام 1979، الذي يبيح الاستملاك لتنفيذ مشاريع سكنية شعبية أو تجمّعات سكنية للعسكريين أو أُسَر الشهداء، وبيعها لهم، ما يناقض فكرة النفع العام المُبرِّرة للاستملاك . وهكذا، أتاح القانون 10/2018 للوحدة الإدارية وضعَ يدها على الأملاك العامة، فيما لم يتطرّق القانون 42/2018 إلى صحة المصادرة والاستملاك، بل مدّد مهل القانون 10 الزمنية لإثبات حقّ الملكية لأصحاب العقارات، مُتيحاً لأقاربهم ادّعاء حقّ الملكية لأصحابها، وللمعترضين حقّ اللجوء إلى المحاكم.
يُذكَر أن لمحافظة دمشق عقاراتٍ قديمةً ضمن مشروع خلف الرازي “ماروتا سيتي”، تبلغ 30 في المئة من المساحة، وما تبقّى هو عبارة عن أملاك خاصة بعضها لسكان هذه المنطقة العشوائية. وقد صنّفت المادة الثالثة من المرسوم 66 هذه العقارات ملكاً شائعاً مشتركاً مع أصحاب الحقوق، في حين منعت مادته الرابعة إجراء معاملات البيع والشراء بكلّ أنواعها. كما نصّت المادة السابعة على تقدير قيمة العقارات تقديراً عادلاً “يراعي القيمة الحقيقية”، من “قبل لجنة يشكّلها المحافظ وتضمّ “قاضٍ بمرتبة مستشار يسمّيه وزير العدل رئيساً”، و”خبيرين اثنين في التقييم العقاري”، و”خبيرين اثنين يمثلان المُلّاك”. بيد أن تعيين الخبراء الأربعة جرى من دون استشارة أصحاب العقارات، أو إعلامهم، خلافاً لما نصّ عليه المرسوم. هذا ولم تكن عملية تخمين العقارات خاضعةً لحقّ النقض أمام المحاكم العادية، بحسب المرسوم 66، ولا صيغته الأشمل في القانون 10/2018، لجميع الوحدات الإدارية في سوريا.
والواقع أن العقود المُبرَمة بين الأهالي والجهة المنفّذة في “ماروتا سيتي”، تجرّد الأهالي من حقّ الملكية بعد الإعمار، وتعطيهم صفة شاغلي العقار الجديد لا مالكيه. وقد سبقت إصدار المرسوم 66 بفترةٍ قصيرةٍ عمليات شراءٍ كثيفة للعقارات، قيل إن أصحاب مكاتب عقارية مُقرَّبين من أعضاء في محافظة دمشق، ومسؤولين كبار، ورجال أعمال، كانوا خلفها . هذا ورافق استملاك المحافظة للعقارات تلاعبٌ بتوزيع حصص الأسهم على أصحابها، وتوصيف العقارات ومواقعها على الأرض، خصوصاً بعد الهدم وإزالة الركام. هذا التغيير في الخرائط لموقع العقارات غير المثبتة بدقة في السجلات العقارية، يسبّب تغييراً بقيمة أسهمها، وفقاً لتوزيع المقاسم وقربها وبعدها عن مركز مدينة “ماروتا”.
الشراكات في ماروتا سيتي: بيع الوهم
يتضمّن مشروع “ماروتا سيتي” بناء 12 ألف وحدة سكنية، ومراكز تجارية وسياحية وترفيهية، فضلاً عن إنشاء مبنى جديد لمجلس الشعب. أما عملية الترخيص للمشروع فتتمّ عبر موافقة محافظة دمشق على مخطّطات الأبنية، في مقاسم جرى فرزها بعدما حصل أصحابها على التراخيص لها من المحافظة ونقابة مهندسي دمشق. وفي هذا الإطار، يُلاحَظ حصول عمليات تداولٍ بالأسهم وبيعها على صفحات فايسبوك مُخصَّصةٍ لهذا الغرض، في حين يترواح حالياً سعر السهم الواحد ما بين 5 و7 ليرات سورية. ولا تزال مدينة “ماروتا” مُتخيَّلةً، يظهر شكلُها في الرسومات الحاسوبية ثلاثية الأبعاد، وبرامج المحاكاة الإلكترونية، فيما يصل إجمالي عدد الأبنية التي سيتم تشييدها إلى 232 مقسماً برجياً، 165 منه للمواطنين، و67 مرفقاً خدماتياً للمحافظة. ويُقدَّر أن سعر شراء المتر الواحد في الشقة السكنية منها، سيبدأ من ثلاثة ملايين ليرة سورية (6 آلاف دولار).
لا يبدو حتى اللحظة أن عملية إعادة الإعمار انطلاقاً من “ماروتا سيتي” قد دخلت حيّز التنفيذ، إذ لم تخصّص الموازنة السورية للعام 2019 سوى 50 مليار ليرة سورية (111 مليون دولار) لهذا الغرض. كما أن كلفة إعمار الجزء السكني من “ماروتا” لوحده ليست ملحوظةً في الميزانية العامة للحكومة بل مُوكَلة للقطاع الخاص، وتتجاوز الـ100 مليار ليرة سورية (222 مليون دولار) بحسب الأرقام الرسمية . وبينما لا تزال الجرافات تعمل على تمهيد الأرض في المنطقة ، أشارت تقديرات رسمية إلى إنجاز حوالي 80 في المئة من الأنفاق التخديمية، متوقّعةً إنجاز البنى التحتية بالكامل في أيلول 2019.
جدير ذكره أن رياض شاليش، ابن عمة الرئيس بشار الأسد والمدير التاريخي لمؤسسة الإسكان العسكرية، كان قدّم عرضاً، أثناء وضع الحجر الأساس لـ”ماروتا سيتي” في آذار 2016، تمثّل باستعداد المؤسسة لتنفيذ البنية التحتية للأعمال المشتركة في المشروع، بنسبةٍ أقلّ بـ20 في المئة من أقلّ عرضٍ آخر مُقدَّم للمحافظة . صحيح أن مؤسسة الإسكان العسكري مؤسسة عامة تنفّذ الإنشاءات المدنية والعسكرية على السواء، إلا أنها تمثّل أحد أبرز أشكال الزبائنية في مؤسسات الدولة. فرياض شاليش يديرها كأنها ملكيّته الخاصة ، على الرغم من تقاعده رسمياً منها في العام 2012، لا بل هو يتحكّم بتعيين المدراء الذين يخلفونه، موظّفاً جزءاً كبيراً من وسائل المؤسسة وأدواتها العامة لتنفيذ أعمال شركاته الخاصة.
ويبدو أن القرض الذي حصلت عليه محافظة دمشق من المصرف التجاري السوري بقيمة 20 مليار ليرة سورية ( 45 مليون دولار)، استُخدِم لتنفيذ الأعمال المشتركة، في حين تبقى ماهية الأعمال والجهة التي نُفّذَت لصالحها غير واضحتَين. إن المبنى الوحيد الذي أُنجِز تشييده في مدينة “ماروتا” هو مقرّ شركة دمشق الشام الفاخر، الذي وقّعت فيه الشركة 6 عقود لمشاريع مشتركة في “ماروتا” مع مستثمرين من القطاع الخاص، تعهّدوا بتقديم التمويل مقابل تقديم الشركة الأرض لهم لتطويرها.
شركة دمشق الشام القابضة قدّمت، في جميع تلك العقود، حصصاً عينيّةً من الأرض، بما يعادل نسبتها من الشركة المشتركة. وكانت حصص بعض المستثمرين أكبر من حصّة دمشق الشام، ما يعني وجود ممثّلين أكثر للمستثمرين في مجلس إدارة الشركة المشتركة مع دمشق الشام، ما يرجّح قرار المستثمر في حال النزاع مع هذه الأخيرة.
لقد وُضِعَت إذاً الأُسُس التشريعية للاستجابة للمسائل المتعلّقة بطريقة تمويل المشاريع التنظيمية واستملاك الأراضي فيها. بيد أن ما تمّ التوافق على بنائه في “ماروتا” هو مدينة ترفيهية فاخرة، تعهّد بإقامتها رجال أعمالٍ معظمهم غير معروفٍ سابقاً، في حين أن المخطّطات التي تعاقدت لإقامتها شركة دمشق الشام مع شركاتهم، لا تشبه أيّ صيغةٍ محتملةٍ لإعادة الإعمار، بل هي مُصمَّمةٌ بشكل أساسي لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية.
المصدر: جريدة المدن