على باب سوق الحميديّة القديم في دمشق تتسوّل امرأةٌ المارّة “الله يرجّع كل غايب لأهلو، لاتدوقوا يلي دقتو، حسنة عنكم ياولاد الحلال”؛ هكذا أثرت حرب النظام على النساء السوريات، كما أثرت على مضمون الدعاء إذ بات يركز على مصائب السوريين المشتركة التي نتجت عن السنوات الماضية. تغيرت ملامح الأسواق والحياة في دمشق في السنوات الثمان الماضية، كما تغيرت معالم المدينة وضواحيها وريفها الذي تعرض لعمليات تدمير وتهجير ممنهجة. على بعد أمتارٍ من أبواب المحاكم الشرعية في القصر العدلي تبحث امرأةٌ عن شاهدين لإثبات غياب زوجها حتّى تحصل على وصاية سفر لأبنائها، وهناك في القصر العدلي ستجد أنّ نادلات المقهى نساءً، وعاملات تصوير الوثائق في الأكشاك نساء، ولكلّ امرأةٍ قصّةٌ ترويها. سلمى تبحث عن محامٍ يثبت طلاقها بأتعابٍ مقبولةٍ، وتروي لـموقع تلفزيون سوريا قصّتها “تزوجت عام 2013 كنت أبلغ العشرين، وبعد شهر ونصف من زواجي نزل زوجي من زملكا عالشام ومارجع، ومن يومها ماسمعت خبر عنو، اليوم ابني صار عمرو 5سنين لازوجي رجع ولا ابني تسجل بالنفوس، لحالي مابقدر عيش وفي ابن حلال بدو يتزوجني ويساعدني ربي ابني، بعد ماخسرت كل شي زوجي وأهلي وبيتي، شو أعمل؟” “ماذا تفعل؟” أنا أيضاً أتساءل معها، فظروف الحياة قاسية هنا حتّى على من لم يشرّده القصف والقتل والدمار من منزله وأرضه، فكيف على من لا بيت يأويه ولاسند. إذا كان غياب الزوج قد دفع سلمى وغيرها من النساء لأن يطرقن أبواب المحاكم والدوائر الرسميّة ويدخلن دوامة المعاملات وجحيم إجراءاتها، فإنّ الوضع الاقتصادي قد دفع أعداداً هائلةً من النساء للبحث عن فرصة عملٍ في ظروفٍ قاسيةٍ، علّهن يستطعن تأمين بعض مستلزمات الحياة، فليس غريباً أن ترى جميع أفراد الأسرة نساءً ورجالاً وأطفالاً يعملون ليل نهار لتأمين قوت يومهم، ففي ظروف الحرب ومايرافقها من نزوحٍ ومرض وجنونٍ في الأسعار وزيادة حدّة الاستغلال، لم يعد ماكان يؤمّنه “رجّال البيت” حسب التعبير الشامي، كافياً لإعالة أسرته، ممّا أجبر أعداداً كبيرةً من النساء لدخول سوق العمل بشروطٍ قاسيةٍ وأجورٍ زهيدةٍ. “نزحنا من داريا وسكنا شقة على العظم بصحنايا، أجارها 25 ألف بالشهر، وبعد ما أمن زوجي شغل بالباطون، كل شي كان يطالعه ما كان يكفي أجار البيت، اشتغلت بشطف دراج البنايات وبعدين صرت نظف بيوت وبناتي يساعدوني، عندي 3بنات وصبيين، بعدين صرت اشتغل بورشة خياطة بيعطوني بالأسبوع 5000 ليرة، وبناتي صاروا يشطفوا الدراج، والحمدلله انسترنا واستأجرنا غرفتين والله مابيقطع حدا” هذا ماقالته أم محمود التي لم تبتلع الحرب زوجها فما زال يسندها وتسنده. ولكن هناك آلاف النساء يحملن أعباء الحياة وحدهن فعدا عن الضحايا والمعتقلين فرضت الملاحقات الأمنية والخدمة الإلزامية والاحتياطية على أعدادٍ كبيرةٍ من الرجال إقامةً جبريّةً وقيّدت تحرّكاتهم وأخرجتهم من دورة الحياة الاقتصاديّة، وألقت على عاتق المرأة أعباء الحياة فلم يبقَ بابٌ لم تطرقه والأعمال التي كانت حكراً على الرجال لم تعد كذلك. ستجد الآن في شوارع دمشق وريفها عاملات نظافة يكنسن الشوارع ويجمعن القمامة، وسترى أخريات يشتغلن في أعمال الحفر والترحيل وتعبيد الطرقات، وهذه المهن لازال من المستهجن أن ترى نساءً يعملنَ بها، ورغم استغلال أرباب العمل لهنّ والعمل الشاق الذي يقمن به لن يسلمن من لسان المجتمع وتعليقاته، مجتمعٌ مازال مصرّاً على أن تكون المرأة دائماً ضحية مشاكله والحلقة الأضعف فيه.
فهل ستبقى المرأة خاضعةً لأحكامه وشروطه بعد أن أجبرتها الحياة على اكتشاف قدراتها الكامنة وإمكانيّة أن تكون مستقلّةً اقتصاديّاً؟ هذا مارفضته سهام “بعمري مافكرت اشتغل برات البيت وكنت شوف اللي بتشتغل بمطعم وكافيتريا فلتانه، راح زوجي بقذيفة وصرلي سنة بشتغل بمطعم بباب توما، تعرضت لمضايقات كتيرة وبسمع كتير حكي بس صرت أعرف كيف دافع عن حالي، عرفت إني قادرة إحمي حالي واصرف على حالي، وحتى لو تحسن وضع البلد أو تزوجت مرة تانية ماعاد أقدر عيش بلا شغل.”
دائماً ما تغيّر الحروب الأدوار الاجتماعية وتكسر نمطية الحياة، وحتماً ستخلق نوعاً جديداً من العلاقات وربما تحمل ثورةً لحقوق النساء، ونساء سوريا في الداخل وفي الخارج، وفي السجون والمعتقلات يقدّمن دليلاً جديداً أن لاتطوّر ولاتقدّم سيطال المجتمع مالم تكن المرأة حاضرةً وفاعلةً داخل المنزل وخارجه، فبعيداً عن المنظمات النسوية ومؤتمر بكين واتفاقية السيداو، تسير المرأة السورية وحيدة، تحمل عبء أيامها، تخلق بيديها حياة وحلما بغد أكثر عدالة وأقل قهراً.
المصدر: تلفزيون سوريا