تترك التصريحات الرسمية، ومفادها أن لبنان لن ينتظر التسوية السياسية لـ”التخفف من أعباء اللاجئين السوريين”، انطباعات سلبية كثيرة في تجمعات هؤلاء، وأشد ما يؤلمهم في ذلك، أن من يستعجل رحيلهم لا يبالي بتسليم مصيرهم إلى نظام اختبر اللبنانيون قبلهم بطشه وقسوته، ويدركون تماماً “قدرته على إبادة شعب، متى كان وجوده مهدداً لبقائه”.
فخ “المصالحات”
فوسط النقاش الدائر حول “العودة الطوعية وتلك الآمنة”، يستسلم سكان هذه التجمعات لحال القلق العامة التي باتت تسودها. وبرأي هؤلاء، أن ما قد يفهمه المسؤولون اللبنانيون أمناً، لمجرد توقف القتال المباشر بين النظام ومعارضيه، ليس أقصى المخاوف، وإنما “رعبهم” مما يتواتر إليهم عن عمليات اقتصاص وإخفاء قسري تعرض لها الكثيرون ممن سبقوهم في العودة “الطوعية”.
لم تشفع بمعظم هؤلاء “المصالحات”، فوجدوا أنفسهم مقتادون إلى جبهات القتال الأخيرة، يستخدمونهم وقوداً مجانياً، للحفاظ على تمدد نظام، يسكر “بنشوة الظفر على شعبه”. ومن هنا لا فرق لديهم بين مرارة أي من العودتين اللتين يتم “توعدهم” بهما أكانت “آمنة” أو “طوعية”، لأنه إذا ترك لهم الاختيار فسيسارعون إلى الجزم “لا عودة”، أقله “ليس في ظل النظام الحالي”، أو على الأقل، لا عودة من دون ضمانات دولية، يطالبون بها للحفاظ على حريتهم قبل حياتهم. ولا يعني ذلك، كما يؤكدون، تمسكا بإقامتهم “المذلة” في الأراضي اللبنانية، وإنما تداركا لما ينتظرهم من مصير غامض في بلدهم، حيث الأخبار التي تصلهم من هناك “غير مشجعة”.
المرّ والأمَرّ
أكثر ما يؤذي السوريين في تجمعات لجوئهم، أن يتم التحدث عنهم فقط كـ”عبء” على المجتمعات التي استضافتهم، وأن يُحاربوا بموجة تحريض، تصل إلى حد تحميلهم مسؤولية الأعباء الاقتصادية والبيئية والاجتماعية، التي يرزحون تحتها مع اللبنانيين، فيما هم مضطرون لتقبل “أجواء الكراهية” التي تحيط بهم، مع الكثير من “التجني”، بـ “فم مغلق”، حتى لا يُدفع بهم، “كرهاً”، إلى أيدي النظام الذي يتمنون له “السقوط”.
تبادر إحدى السيدات من إدلب، لدى استطلاعنا، رأيها حول أسباب تعلقها باللاعودة على رغم وضع عائلتها المعيشي، الذي تقول أنه لم يعد يطاق في لبنان، للقول “لم يجبرنا على المرّ إلا الأمرّ منه”. كان لهذه السيدة بيت سابق في أبو ضهور، على بعد كيلومتر واحد من المطار، الذي تقول أنه لا يزال يستخدم في شن الغارات على المعارضين. أخبرها مختار البلدة “المؤيد للنظام”، أنه ربما يكون الوحيد الذي يتردد على حيها، فيما بيوت الناس كلها هناك تحولت ثكنات عسكرية، بعد أن نُهبت، ولحقت بها أضرار كبيرة. تشير السيدة إلى صبيتين صغيرتين إحداهما تحمل طفلا على يدها والثانية جنيناً في أحشائها، وتعرّف عنهما كزوجتي إبنيها، اللذين يبلغان 20 و22 سنة، لتخبرنا أنهما مطلوبان للخدمة الإلزامية، وأنها لا هي ولا زوجتيهما مستعدات للتضحية بهما، حتى لو اضطروا للعيش في الجرود.
ليس ذلك اعتراضا على الخدمة الإلزامية أبداً، فهي مقتنعة كأبو عبود الذي التقيناه على بعد كيلومترات، “بأن الخدمة العسكرية في سوريا كالموت الذي لا مفر منه”. لكن، لا أحد مستعداً لمنح أولاده “كبش فداء” حتى يحافظ “نظام ظالم على بقائه”.
كان أبو عبود وصديقه أبو محمد، من إدلب، جالسين على قارعة أحد أجزاء الأوتوستراد العربي غير المكتمل باتجاه الحدود اللبنانية – المصنع، حيث تنتشر عشرات المخيمات للاجئين السوريين، يحاولان الاستفادة من دفء الشمس مع نرجيلة وكأسي شاي وفنجان قهوة عربية، لتمرير الساعات القاتلة من دون عمل، ولا مكان يلجآن إليه. عمل أبو محمد، في سوريا، سائقاً لشاحنة على خط السعودية. أما الآن، يقول “لا خط ولا من يحزنون”. يشارك أبو محمد أبو عبود القلق على أولاده من الخدمة الإلزامية، ويشير إلى أنه لا يزال يتابع الأخبار يومياً، ويبدو أن إدلب وريف حماه لم يهدآ كليا بعد، وطالما أن لا أمان فلا عودة. يسأل “لماذا أقدّم أولادي للخدمة الإلزامية، ليقتلوا، ويمنحوني وساماً بشهادتهما؟ لا، نحن بغنى عن هذه الأوسمة، ردوا لنا الآمان، وليذهب أولادنا بعدها للخدمة، ولكن طالما أن هناك كيلومترا واحدا في سوريا لا تزال تدور فيه اشتباكات، فإن رجال سوريا غير مستعدين للتضحية، لا بأنفسهم ولا بعائلاتهم في حرب عبثية”.
العودة إلى لبنان.. ثانية
تتشارك أم عودة مع جارتها في المقابل بأمنيات العودة، فبالنسبة لهما هناك “الوطن والبيت والأهل، بينما هنا نحن غرباء حتى في لهجتنا، التي لا يفهمها الكثيرون”.
تعيش “أم عودة”، وهي من الرقة، في مبنى غير مكتمل في محلة الفيضة بزحلة، وبينما هي تستغل انحسار الأمطار لغسل سجادات البيت، التي تفرشها، لتقي أطفالها الثلاثة رطوبة الأرض، التي تصبح سريرهم ليلا، تخبرنا عن أوضاع سوريا التي لم تعد تسر أحداً، وعما سمعته من أقربائها هناك، حول النقص الكبير في كثير من المواد، حيث لا يمكنهم أحيانا أن يجدوا رأس بندورة لأكله، بعد أن صار الكيلو يباع بـ 850 ليرة في الأسواق، عدا عن النقص في الغاز وفي المواد الأولية. وعليه بعد أن كانت تعتقد بأن المعيشة في لبنان باهظة على السوريين، صار البقاء فيه أهون عليها، وعلى عائلتها من الذهاب إلى سوريا.
بينما كانت أم عوده تسترسل بالحديث عن ظروف الحياة، التي فرضت على زوجها الموظف في الحكومة أن يعمل أجيراً، في مشاريع المياه المنفذة بتمويل من الجهات المانحة، وكيف اضطرت وزوجها لإنفاق كل المبلغ، الذي تأمن لهما من مفوضية اللاجئين، من أجل شراء المازوت وعلى مرض أحد أولادهما خلال الشتاء، يطل أبو عوده، حاملا معه هواجس شباب جيله من استدعائهم إلى الإحتياط. يقول “لدي ثلاثة أطفال. إذا ذهبت إلى سوريا وطلبوني إلى الإحتياط لمن أتركهم؟ وخصوصاً في ظل الغلاء الذي تصلنا أصداؤه.
أبو عودة هو من الأشخاص الذين أرسلوا عائلاتهم إلى سوريا قبل فترة قصيرة، ولكنها عندما اختبرت صعوبة العيش عادت إلى لبنان عبر المعابر غير الشرعية، أما العودة الثانية فإما أن تكون لكل العائلة أو لن تكون، ولا مانع حينها إذا ختم على جوازاتهم منع الدخول، لأنهم يعلمون أن عودتهم ستكون نهائية إلى بلدهم.
“الأمان برحيل النظام”
يخبرنا أبو أسد في المقابل أن جاره “فيّش” نفسه قبل الرحيل إلى سوريا، ولم يتبين أنه مستدعى للاحتياط، ولكن ما أن وصل إلى سوريا حتى اقتيد للخدمة العسكرية، ولم تعرف عائلته على أية جبهة بات حالياً. بالنسبة لأبو أسد، وهو من درعا، “الأمان” له ترجمة واحدة “رحيل بشار الأسد والنظام”، ومن دون ذلك “باقون في لبنان إلى أبد الآبدين”.
لا يثق أبو أسد بالنظام ووعوده، وتنضم إليه زوجته لتقول “كيف نثق بنظام مستعد ليقتلنا بغاراته وبراميله السامة. وحتى في ظل ما يحكى عن محاولات روسية تجري لمنع استدعاء الشباب إلى الخدمة العسكرية قبل سنتين، يتساءل أبو أسد عن الضمانات بذلك. ومن هنا، يعتبر أنه في العودة حالياً مخاطرة كبيرة. وبرأيه “حتى إذا لم يقتادني النظام من الحدود إلى الخدمة الإلزامية، فلن أجد لي بيتا في الرقة. وإذا تدبرت أمري في خيمة، فلن أجد عملا يأويني وعائلتي. الوضع في سوريا صعب جداً حالياً، وبعد أن كان راتب 6 آلاف ليرة سورية كافياً لإعالة عائلة، يقولون لنا أنه حتى الـ 300 ألف لم تعد كافية، هذا إضافة إلى غياب الأمان، إذ يقال له أن طرقات درعا تتحول إلى مدينة أشباح، ما إن تتجاوز الساعة الثالثة من بعد الظهر، ولا يسلكها سوى رجال الأمن. وبعد أن كانت الفتاة تسير وحدها إذا شاءت على الطريق، وكان يمكن لأحدهم أن يسير من دير الزور إلى الرقة وحيدا، صارت الطرقات خطرة جدا، وبات الكل يلازم منزله قبل أن تغيب الشمس”.
ولكن أبو أسد يطمئن اللبنانيين القلقين من التوطين: “عندما يعرف السوري أن بلده بات آمناً، لن تروا أحداً منهم هنا. فنحن قبلنا بالذل هنا حتى لا نموت. أما الآمان فيعني تغيير النظام. لأن هذا النظام أمني قمعي. اسألوا أنفسكم يا لبنانيون، فأنتم أدرى بما هو قادر عليه”.
كبش الفداء
ولا يبدو رأي عائلة أخرى، من دوما، مخالفاً له. تتحدث السيدة المتزوجة من لبناني عن عم لها أخفي منذ بداية الحرب، ولم يعرف عنه شيئاً، وعن شقيقها الذي سجل ميتاً، بعد أن نقل إلى مستشفيات لبنان، من ضمن المحاربين المعارضين الذين أصيبوا في بداية الحرب. وتتساءل ما هي الضمانات التي يمكن أن تعطى لعدم قتل شقيقها إذا عاد، ثم كيف يعود إذا كان من دون أوراق ثبوتية، وسجل ميتاً في سوريا. وتقول: “ضعوا أنفسكم مكاننا. هل تعودون؟”
يدلنا زوج السيدة إلى أبو أحمد وأبو غازي، من القنيطرة، كانا يتبادلان الحديث على قارعة الطريق عن شبان سوريين سجلوا كما يقولون في “المصالحة الروسية”، حتى يعودوا بضمانتها. تبدو روسيا وحدها بالنسبة لهما مصدر ثقة، لأن أي مصالحة أخرى لا تضمن بأن الرجال العائدون لن يقتادوا إما إلى الخدمة الإلزامية أو إلى الإحتياط. يلفتنا أبو غازي إلى سحنة أبو أحمد الذي سرح من الجيش منذ سنة 2002، ويسألنا هل من العدل أن يقتاد رجل أربعيني بمثل عمره إلى الحرب، فهو حتى لم يعد قادراً على الركض للنجاة بحياته، متى تعرض للخطر.
يلفت أبو أحمد في المقابل إلى أن الشباب السوريين الذين تسجلوا في المصالحة الروسية، مستعدون ليكونوا كبش فداء عن غيرهم، ممن سيتسجلون لاحقاً، في هذه المصالحة، إذا تبين فعلا أنها تشكل ضمانة لسلامتهم. ولكن طلبهم رفض حتى الآن بسبب ما نقل إليهم عن أن روسيا تنتظر عدداً أكبر من المسجلين لتسير بإجراءاتها مع السلطات السورية.
المصائر البائسة
أما المصالحات السورية – السورية كما يؤكدون، فهي “ليست سوى كذبة”، لأن لدينا جيراناً غادروا إلى سوريا بناء لهذه المصالحات وأخبرنا أقرباؤهم أنهم اقتادوا الرجال ما إن وصلوا إلى الحدود، وحتى قبل أن يطمئنوا على عائلاتهم في منازلهم. ومن هنا لم يعد أحد يجرؤ على التقدم بطلب مصالحة، لأنه ما إن يسجل اسمه بين العائدين، حتى يدرج على قائمة من يستدعون للخدمة الإلزامية.
ومع ذلك تتمنى عزيزة الأحمد من إدلب، أن يكون كل ما يقال عن عودة مضمونة أمنياً صحيحاً، رغم عدم تفاؤلها بانسحاب ذلك على منطقتها، فتقول أنهم جمعوا كل الثوار هناك، ويواصلون الآن حربهم عليهم.
ما تتمناه عزيزة من العودة الآمنة هو أن يلتم شملها مجددا مع أولادها، الذين فرقتهم ظروف الحرب، فطفش أحدهم مع زوجته وطفليه في جرود غربي حلب، حيث تصلها أخبار كثيرة عما يعانونه حتى من الجوع، فيما ابن آخر لها في تركيا يحاول أن يتابع دراسته، وإبنان “يبركان” معها من دون عمل، ينتظران ما يمكن أن يتوفر لهما من عمل شقيقتهما، التي تسجلت في إحدى الورش الزراعية، بأجر لا يتجاوز ستة آلاف ليرة يومياً، لا تكفي أجرة لخيمة ولتدفئة وطعام.
المصدر: جريدة المُدن اللبنانية