فور إخلاء فصائل المعارضة ورافضي اتفاق “التسوية” من الغوطة الشرقية، قبل 6 شهور، بدأ النظام عملية احصاء دقيقة، انطلاقاً من “مراكز الإيواء المؤقتة” التي قصدها أكثر من 100 ألف مدني وعسكري خرجوا من معابر روسيا “الآمنة”، وصولاً إلى بلدات الغوطة الشرقية التي بقي فيها قرابة 100 آلف شخص.
خلال فترة سيطرة فصائل المُعارضة المُسلحة، لأكثر من خمس سنوات، شهدت الغوطة الشرقية عشرات آلاف الوقائع المدنية من زواج وطلاق وولادة ووفاة، عدا عن الوقائع التجارية كالبيع والشراء والتوريث. وقائع لم يتم تسجيلها رسمياً لدى المؤسسات الرسمية التابعة للنظام، بل أخذت المُعارضة المدنية في الغوطة الشرقية، مُمثلة بمجالس محلية وقيادات ثورية، على عاتقها مهام تسجيل الأحوال المدنية في سجلات خاصة بها. وقبل عملية التهجير القسري من الغوطة قامت المعارضة بإحراق بعض السجلات، فضلاً عن استهداف الطيران الحربي لعشرات مراكز المجالس المحلية ودوائر السجلات المدنية التابعة للمُعارضة، خلال الحملة العسكرية الأخيرة.
مع خروج عشرات الآلاف باتجاه “مراكز الإيواء”، والبدء بعملية إحصاء للعائلات، وفرز الذكور عن النساء، واجه النظام قضية الوقائع المدنية الغائبة، مع وجود أطفال غير مُسجلين ووقائع زواج غير مُسجلة. فضلاً عن ذلك، “التسوية الأمنية” تحتاج إلى تسجيل أدق التفاصيل عن حياة الشخص الراغب بـ”المصالحة”، بما في ذلك توثيق وقائع الزواج والولادة والوفاة لدى دوائر “الأحوال المدنية” التابعة للنظام.
دوائر الأحوال المدنية بدأت تفعيل دورها في الغوطة الشرقية، وتجهيز أماكن لاستئناف عمل موظفيها من جديد، بعدما صدرت أوامر روسية مُباشرة لوزارة الداخلية لدى النظام. دوائر “الأحوال المدنية” بدأت البحث المُكثف في مواقع المعارضة سابقاً، ودوائر السجلات المدنية القديمة، لتحصيل ما يُمكنها تحصيله من الاوراق الرسمية من مُخلفات الحرب. وتم تفعيل دور “دوائر النفوس” في معظم المناطق، حتى قبل فتح الطرقات رسمياً إلى الغوطة الشرقية، وقبل وصول التيار الكهربائي إلى معظم المُدن والبلدات، وسط حملة لإخبار الأهالي بضرورة تثبيت الوقائع المدنية بأسرع وقت ممكن.
مصادر أهلية، أكدت لـ”المدن”، أن عملية تثبيت أي واقعة يختلف من واحدة إلى أخرى، فمثلاً تثبيت الزواج والطفل مع وجود الأم والأب لا يحتاج سوى حضور شاهدين وذوي الأم الذين وافقوا على الزواج، ليتم تثبيته أصولاً وتسجيل الطفل. أما في حال مقتل الأب أو الأم، فالواقعة تحتاج لعدد أكبر من الشهود، مع تسجيل حادثة الوفاة على أنها بفعل “وجود الإرهاب” في الغوطة الشرقية خلال السنوات الماضية.
عشرات الأهالي توجهوا إلى مراكز “الأحوال المدنية” لتثبيت وفاة أبنائهم بشكل قانوني، تجنباً لمشاكل لاحقة، خاصة مع وجود قوائم مطلوبين أمنياً وللتجنيد الإجباري تضم أسماء أناس قضوا بفعل القصف أو المعارك. وتسجيل وقائع الموت تحتاج إلى شاهدين، مع تحديد واضح وصريح لحادثة الموت إن كانت بفعل القصف أو إن كان المتوفى مسلحاً مع فصيل ما. وبكل الأحوال، فالمعلومات التي ستُسجّل بشكل رسمي هي الموت بـ”فعل الإرهاب” الذي كان يُسيطر على المنطقة.
يتعامل النظام مع تلك الوقائع بتروٍ وهدوء، من دون إثارة أي جدل، بحسب مصادر “المدن”، التي تضيف أن النظام يطمس معالم جرائمه التي نفذها بحق أهالي الغوطة الشرقية على مدى ست سنوات حاصر خلالها المنطقة وفتك بأهلها بكافة أنواع الأسلحة. ويأتي ذلك تزامناً مع حملة كبيرة نفذها النظام، خلال الشهر الماضي، لنبش مئات القبور من ضحايا الكيماوي ونقلهم إلى مكان مجهول.
ولم يقتصر الأمر على الغوطة الشرقية فقط، بل بدأت عمليات احصاء جديدة في دمشق ومحيطها، للمالكين والمستأجرين الوافدين إلى العاصمة. ويتضمن ذلك أسئلة حول عدد أفراد العائلة، والتشديد على ما إذا كان شباب العائلة قد خرجوا بشكل غير شرعي من البلاد، أو أنهم قضوا في الغوطة الشرقية بعد وجودهم إلى جانب قوات المُعارضة. أحد المُستجوبين يقول لـ”المدن”: “دخل عناصر الإحصاء إلى منزلنا، خلال جولتهم الدورية كل شهر، وبعد السؤال عن شباب العائلة، أكدوا لنا معرفتهم بوجود أحد ابنائنا في الغوطة الشرقية منذ سنوات، مع عدم التحقق من مصيره إن خرج نحو الشمال السوري أم قُتل في الاشتباكات والقصف، مؤكدين لنا ضرورة التعامل مع الأمر بجدّية أكبر، وتسجيل الواقعة في حال خروجه إلى الشمال، تجنباً لمشاكل لاحقة”.
عائلة دمشقية أخرى قضى ابنها في حي جوبر الدمشقي، خلال فترة عمله في صفوف “فيلق الرحمن”، أرادوا تثبيت واقعة وفاته في النفوس، فطُلب منهم جلب اثنين من أبناء جوبر الذين كانوا مع إبنهم كشهود على مقتله بيد “مُسلحين”، وتسجيل الواقعة داخل الغوطة الشرقية، ثم تسجيلها لدى مختار الحي في دمشق والمجلس البلدي، لتصدر بعدها “موافقة” من “الأمن الوطني” على تثبيت الواقعة، بعد وضع “نقطة سوداء” على اسم العائلة.
يختلف تسجيل الوقائع من حالة لأخرى، ولكل حالة خصوصية، فالسجلات المدنية التابعة لوزارة الداخلية، تعمل بشكل مُستمر لتسجيل تلك الوقائع، ليأتي بعدها دور المسح الاحصائي الأخير لكامل دمشق وريفها، لمعرفة من خرج منها ومن بقي فيها، ومن قُتل ومن تهجّر نحو الشمال السوري.
المصدر: جريدة المُدن الالكترونية.