تنتشر الشهادات الدراسية المزورة في سوريا منذ عدة عقود، وازداد انتشارها خلال السنوات الماضية نتيجة حاجة الكثيرين للعمل وغياب الرقابة الأمنية التي أعطت مجالا أوسع للمزورين لتنمية نشاطاتهم، وكثيرون من حملة الشهادات الجامعية المزورة عملوا في مناصب حساسة ومهمة، بعضهم تمت إقالته تحت ضغوط الفضيحة.
وكشفت جريدة النهار العربي عن وجود تيارين في الحكومة السورية، الأول تيار إصلاحي، كما وصفته، يحافظ على مسافته بعيداً عن الفساد، والآخر تيار فاسد مفسد وهو الطاغي، يتبنى الفساد ويرعاه ويمدّه طاقة وقوة ودعماً، وله الدور الأكبر في تمرير الشهادات المزورة.
وتباع الشهادات كثيراً وفي كل الاختصاصات تقريباً عن طريق تزويرها لتبدو طبق الأصل عن تلك الصادرة عن الجامعات الرسمية الأربعة وفروعها في سوريا.
أوروبا الشرقيّة
ويتوجه الكثيرين إلى شراء الشهادات من جامعات خارجية، وهذا أمر للأمانة غير مرتبط بالوضع في سوريا خلال السنوات الأخيرة، بل هو رائج في سوريا منذ عقود، ولجامعات بلغاريا ورومانيا أفضال لا تعدّ على أطباء ومهندسين وغيرهم، يمارسون اختصاصاتهم منذ سنين عديدة.
ولا يمكن القول إنّ كلّ من حصل على شهادات تلك الدول إبان الحكم السوفياتي اشتراها، فالبعض حازها بالحضور والدوام والاجتهاد، والعكس تماماً صحيح، ويمكن استنتاج ذلك من كون كلّ سوري يعرف بالأمر بحكم العيش الطويل داخل البلد، وإمكان الحصول على شهادات كتلك على الدوام، مقابل المال.
يؤكد ذلك أيضاً المهندس المدني “معروف السالم” وقال إن “البعثات كانت أكثر من كثيرة أيام الاتحاد السوفياتي، “أتيحت لي فرصة السفر أكثر من مرّة، كان ذلك في الثمانينات، ثم علمت أنّه في جامعات معينة في رومانيا أستطيع شراء الشهادة بمجرد وصولي إلى هناك، من دون أن أدرس كلمة واحدة حتى”.
ويكمل: “لا أدّعي الفضيلة، ولكن لظروف عائلية لم أسافر، وفضلت أن أكون خريج جامعة دمشق وهذا ما كان، لكن كثراً من زملائي سافروا في تلك البعثات وعادوا حاملين الشهادات، وبعضهم الدكتوراه، لا أتهم أحداً منهم، ولكن كان يتردد في الجو النقابي أحياناً أحاديث عن أنّ شراء الشهادات كان السمة الأبرز للسوريين في دول أوروبا الشرقية”.
بدوره قال للمهندس “عباس شيحا” الذي كان على وشك الالتحاق ببعثة دراسية في ألمانيا الشرقية عام 1983 “حقيقة وقتذاك كنت أخطط لأن أذهب إلى ألمانيا الشرقية، ومنها إلى الغربية، ولكن حين درست الاحتمالات وتبين لي أنّ ذلك سيكون مستحيلاً، عدلت عن فكرة البعثة بأكملها، وتابعت تعليمي في دمشق وتخرجت فيها”.
مجهود أقل
وروى الطبيب “علاء مراد” تجربة دراسته في روسيا، وقال “حين التحقت ببعثة روسيا، كانت دولتنا تزودني بمرتب شهري بالدولار، وكان الوضع غير جيد في الاتحاد السوفياتي، من الظلم لنفسي ولزملائي أن أقول إننا تخرجنا من دون دراسة، قطعاً ذلك غير صحيح، ولكن للأمانة التاريخية، ربما نكون قد قدمنا مجهوداً أقلّ من أقراننا في جامعات سوريا”.
ولم يشرح الطبيب تفاصيل “تقديم مجهود أقل” مكتفياً بالتوضيح أنّ الشهادة التي يعمل بها الآن هي شهادة نالها عن تعب وهي مستوفية لأركان العلم والمهنة.
شهادات الحرب
أما بالنسبة إلى شهادات الحرب، وهي المنتشرة اليوم، والتي يتم شراؤها مقابل مبالغ مالية، سواء داخلياً أم خارجياً، فهي شهادات من شأنها قتل جودة التعليم، ومستقبله، وتعزيز تآكل مؤسسات الدولة، في ظل غياب القدرة الشاملة على المواجهة، وتالياً إقامة منهجية وظيفية قائمة على التزوير وانعدام الكفاءة.
طبق الأصل
تقول “هدى بيرقدار” وهي خريجة من جامعة دمشق، إنّها تعرفت عام 2015 إلى فتاة اسمها رقية من ريف دير الزور خلال اتباعهما دورة متقدمة في فنون المحادثة باللغة الإنكليزية في أحد معاهد العاصمة دمشق.
وتضيف: “لم توفق رقية في دخول الجامعة وتحقيق حلمها في دراسة اللغة الإنكليزية، بسبب ظروف عدة تتعلق بالحرب وابتعادها عن مدينتها الأم إبان معاركها ولجوئها إلى دمشق، حيث لم توفق لدراسة الفرع أكاديمياً، فاستعاضت عنه بدورات مكثفة، وأنا أشهد لها أنّها كانت الأفضل بيننا في الدورة التي جمعتنا”.
وحسب شهادة هدى فإن صديقتها رقية وجدت ضالتها للشهادة الجامعية، ومن دون أن تدخل الجامعة حتى، “بعدما توطدت صداقتنا أخبرتني أنّها ستشتري شهادة مزورة ولكن لا يمكن تفريقها عن الحقيقية، خصوصاً أنّها ستعود لتعمل بها في مناطق سيطرة (قسد)”.
لا تعرف هدى الكثير من التفاصيل، ولكنّها علمت أنّ رقية حصلت فعلاً على شهادة طبق الأصل، وهي تعمل بها الآن في مناطق شرق الفرات.
عبر الوسيط
كان العثور على الوسيط أمراً يسيراً، فخلال البحث في ملف الشهادات الجامعية، وصلنا عبر طالبة جامعية تدعى هيفاء إلى صديقها وهو الطالب الجامعي “أحمد” والذي كان يريد شراء شهادة جامعية، ولكنّه عدل عن قراره خوفاً من القانون، ولأنّه وصل إلى سنته الجامعية الثالثة، فكان الأمر لا يستحق المغامرة والمخاطرة، بحسب ما قاله لنا، ليقوم بإرشادنا إلى الوسيط، وأدى دوره بتقديم توصيته للتعامل معنا، على أنّنا “مضمونون”.
التقينا الوسيط في أحد مقاهي دمشق، بدا متحفظاً ومتكتماً للغاية ومختصراً في حديثه قدر المستطاع، حتى أنّه بالكاد أوضح أنّ سعر شهادة الماجستير والدكتوراه أغلى من الشهادة الجامعية.
الوسيط طلب مبلغ 5500 دولار أميركي لمصلحة المزور لقاء استخراج شهادة جامعية بتاريخ قديم نسبياً، ولكن شرط أن يظلّ التعامل عبر الوسيط حصراً.
ورجحت النهار العربي عمل الوسيط ضمن شبكة كاملة تعمل في التزوير، شبكة قوامها أشخاص من داخل الجامعة نفسها، ولديهم الكثير من الزبائن خارج سوريا، وآخرين في سوريا، وأكثرهم في المناطق التي لا تسيطر عليها الحكومة.
ويمكن تعزيز استنتاج وجود أشخاص يساعدونهم من داخل الجامعات، في تبرير حصولهم على الختم الإلكتروني الخاص بكليات الجامعة، والذي يصعب تزويره، ويأتي وضعه بعد مرحلة العمل على الشهادة عبر برنامج الفوتوشوب والسكانر.
عبر الدّول
كشف تحقيق لقناة “SVT” السويدية تم إعداده في النصف الثاني من العام الجاري حول الشهادات المزورة في السويد، أنه في السنوات الأخيرة زاد عدد بلاغات الشرطة عن الشهادات المزورة من خارج البلاد زيادة كبيرة، وأكثر من 60% منها هي شهادات من سوريا.
وجاء في التحقيق، أن شهادات المحاماة أو الصيدلة أو التمريض أو التربية المزورة، هي بعض الأمثلة التي أُدين أشخاص في بلدة سودرتاليا باستخدامها.
وقالت مصادر إعلامية إنّ المحققين في مجلس الجامعات والكليات يجرون تدقيقاً شديداً للتأكد من صحة الشهادات المقدمة للتقييم، خصوصاً الصادرة من جامعة دمشق، إذ ارتبط اسمها بكثير من حالات التزوير، بحسب التحقيق.
في القانون
وفق القانون السوري، فإنّ عمل التزوير هو تحريف مفتعل للحقيقة في الوقائع والبيانات التي يراد إثباتها بصك أو مخطوط يحتج بهما، يمكن أن ينجم عنه ضرر مادي أو معنوي أو اجتماعي.
ويجرم القانون جميع الأشخاص الذين يرتكبون جرم “تزوير الأوراق الرسمية”، ويعاقب عليه بـالسجن 15 عاماً مع الأشغال الشاقة الموقتة، بحسب المادة 448 من قانون العقوبات.
بينما تنص المادة 151 على معاقبة كل شخص بالعقوبة نفسها عند إبراز وثائق مزورة أو كاذبة أو محرفة أو منظمة بطريقة تخالف الحقيقة وهو عالم بذلك.
ويعاقب الموظف الذي ينظم سنداً من اختصاصه فيحدث تشويهاً في موضوعه أو ظروفه بالأشغال الشاقة المؤقتة لخمس سنوات على الأقل.
عن المستقبل
ما بين طلاب يكدون ويجدون، وآخرين يدفعون لنيل الشهادة، وبين الاثنين فوضى لا يمكن التعامل معها وتفكيكها وإعادة ترتيبها في زمن قصير، بل قد تستغرق سنوات طوالاً لكشف ملابساتها وإعادة تصحيح المسار العلمي – المجتمعي لها.