“أحد عشر عاماً من الحرب في سوريا، جعلت ملايين السوريين معلّقين بخيط رفيع… حوالي 12 مليون شخص منهم، أي أكثر من نصف السكان، يواجهون انعداماً حاداً في الأمن الغذائي، بنسبة أكبر من النصف عن عام 2019، إلى جانب وجود نحو 1.9 مليون شخص معرضين لخطر الجوع، تزامناً مع تحول الوجبات الأساسية إلى رفاهية بالنسبة إلى الملايين”.
هذا النص جزء من بيان أصدره برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة في شهر أيار (مايو) الجاري، وجاء فيه أيضاً، إنّ سوريا أمام سيناريو مقلق، نتيجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة تتجاوز 800 في المئة في أعلى مستوى لها منذ عام 2013.
المدير التنفيذي للبرنامج ديفيد بيزلي، قال إنّ “ملايين العائلات السورية لا تعرف من أين تأتي وجباتها الغذائية التالية … يجب على المجتمع الدولي أن يدرك أن عدم اتخاذ اجراءات الآن سيؤدي حتماً إلى مستقبل كارثي للسوريين. إنهم يستحقون دعمنا الفوري وغير المشروط، فخلال عام واحد، شهدت سوريا احتياجات غير مسبوقة، حيث يتطلب التأثير الإضافي للحرب في أوكرانيا أن يتدخل المانحون للمساعدة على تجنب تقليل الحصص الغذائية أو تقليل عدد الأشخاص الذين يساعدهم البرنامج”.
الجوع في مستويات تاريخية
استهل البيان معطياته رابطاً حالة الجوع الحالية في سوريا بما يحصل في أوكرانيا وواصفاً الحرب هناك بالضربة الجديدة لقدرة سوريا على إطعام نفسها، وأنه في شهر آذار (مارس) الماضي فقط زادت أسعار المواد الغذائية بنسبة 24 في المئة، ليعيد البيان التأكيد أن ما يحصل في أوكرانياً اليوم هو ما يجعل سيناريو الغذاء مقلقاً في سوريا.
وأشار البرنامج إلى أن واحداً من كل ثمانية أطفال في سوريا يعاني من التقزم بينما تظهر الأمهات الحوامل والمرضعات مستويات قياسية من الهزال الحاد. و”كلا الحقيقتان تشيران إلى عواقب صحية مدمرة للأجيال القادمة”.
وتتعرض موارد برنامج الأغذية العالمي لضغوط أكثر من أي وقت مضى، حيث أنّ التمويل لا يواكب الاحتياجات الهائلة للناس في أنحاء سوريا كلها. وبمرور الوقت، اضطر برنامج الأغذية العالمي إلى تقليص حجم الحصص الغذائية الشهرية تدريجياً في سوريا، ليصل إلى حدّ خفّض معه الحصص إلى نسبة 13 في المئة في شهر أيار (مايو) الجاري في شمال غربي سوريا. في حين يسجل البرنامج العالمي عجزاً قدره 595 مليون دولار أميركي.
ارتدادات أوكرانية
“بيان برنامج الأغذية يشرح نفسه”، وفق دكتور الاقتصاد، معلا أحمد، ويقول لـ”النهار العربي” إن “الحرب الأوكرانية ألقت بظلالها الثقيلة على الداخل السوري منذ أيامها الأولى وهو ما انعكس ارتفاعات غير مسبوقة في الأسعار، فالوضع في سوريا ما بعد 24 شباط (فبراير) ليس كما قبله، وهو تاريخ الحرب في أوكرانيا، حين نقول إنّ الأسعار ارتفعت في شهر واحد وهو الشهر التالي للمعركة في أوكرانيا، بنسبة 24 في المئة، فنحن أمام مشكلة وواقع اقتصادي مثقل بالمشاكل، يتطلب علاجاً وتحركاً سريعين”.
ويقول الموظف الحكومي، سامح نهرو لـ”النهار العربي” إنّ التأثر بالحرب كان واضحاً منذ اللحظة الأولى، “لست خبيراً سياسياً أو اقتصادياً، ولكن ما إنْ بدأت الحرب في أوكرانيا حتى قفزت الأسعار لدينا مرةً واحدة، وما زالت ترتفع بمعدل يومي. هذه الأشهر الأخيرة تساوي بقساوتها سنوات بحالها مرت علينا”.
بدوره أوضح الخبير الاقتصادي، محمود سلام لـ “النهار العربي” أن سوريا من الطبيعي أن تتأثر بالتضخم العالمي باعتبارها تستورد أغلب احتياجاتها من الخارج في ظل الحرب، “نحن هنا أمام عاملين حاسمين، الأول تهاوي قيمة الليرة وقدرتها الشرائية أمام الدولار، وبطبيعة الحال ثبات الأجور على ما هي عليه بالحدود ما دون الدنيا، والعامل الآخر هو التأثر بالتضخم العالمي الذي أفرزته الحرب الدولية بين روسيا وأوكرانيا”.
راتب أربع وجبات غذاء
في محل لبيع الفروج تسأل أم سامر عن سعر كيلو “صدر الفروج”، يجيبها البائع “18 ألفاً”، تأخذ المرأة الخمسينية نصف كيلو على مضض، “نصف كيلو بتسعة آلاف، و6 كيلو كوسا بـ9 آلاف ليرة، وعلبة دبس بندورة بـ6 آلاف، ورز وبهارات بـ4 آلاف، بمعنى طبخة واحدة ليوم واحد تكلف 28 ألف ليرة، وراتب زوجي شهرياً 110 آلاف، يعني راتبه 4 وجبات غداء”، تقول السيدة لـ”النهار العربي”.
في محل مجاور لبيع الخضار كان أبو يحيى الموظف المتقاعد يشتري كيلو بندورة بـ3500 ليرة سورية و5 بيضات بـ2500، “دفعت ستة آلاف لتصنع زوجتي طبقاً من الأكلة الشعبية (جظ مظ)، وهي طبخة الفقراء كما كنا نسميها، وبالتأكيد هي وجبة تكفي لمرة واحدة، فلو تناولنا في اليوم الواحد وجبة واحدة وكانت فقط هذه الوجبة، فسأحتاج في الشهر لـ 180 ألفاً ثمناً لها، أي ضعف راتبي التقاعدي، هذا ناهيك بالطبابة والفواتير وما إلى ذلك من متطلبات ومدفوعات لا يمكن التغاضي عنها، فمثلاً اصطحبت أم يحيى إلى طبيب جراحة الأعصاب قبل أسبوعين وتقاضى مني مبلغ 20 ألف ليرة ووصف لزوجتي أدوية بثلاثين ألف ليرة، وبهذه الحسبة ما تبقى من راتبي يكفي لخمسة أطباق (جظ مظ)”.
كفاف يومهم
أم سامر وأبو يحيى هما مثال عن ملايين السوريين الذين قال عنهم تقرير برنامج الأغذية العالمي أن وجباتهم الأساسية صارت رفاهية، وأنهم صاروا تحت خط الفقر، تحت الخط يئنون بصمت اهتزازاته، ولا شك أقل من أن تتمكن من تغيير شيء في واقعهم المرير. ومن الجيد التذكير أن سوريا صارت طبقتين لا ثلاث، أمراء حرب وأثرياء، وأخرى عمادها وهي الطاغية طبقة مسحوقة لا تجد خبزها كفاف يومها.
المصدر: النهار العربي