حرّكت الدوحة وأنقرة وموسكو، المياه الراكدة في الملف السوري الذي يدخل عامه العاشر، بخطة طريق جديدة، من شأنها إعادة الاعتبار للقضية، ودعم خيار الشعب الذي دفع فاتورة صراع مدمر، ساهم في تردي أحوال الملايين، مع توجه جاد لحلحلة بعض المسارات، مع تقديم تنازلات لتحقيق الاختراق المنشود.
وتكشف التسريبات التي رشحت من الدوحة، تفاصيل السيناريوهات المستقبلية للقضية السورية، وتحدد ملامح البلد الذي سجل انتكاسة في السنوات الأخيرة، بسبب تداخل الرؤى لعدد من الفاعلين الدوليين. وبحسب مصادر على صلة بالملف السوري فإن اجتماع الدوحة الثلاثي، والذي ضم الدوحة وموسكو وأنقرة، حاول تقريب وجهات النظر للقطبين الروسي حليف النظام السوري، من جهة والتركي والقطري الذي يدافع عن خيارات المعارضة من جهة أخرى. ويتجه الكرملين لممارسة الضغط على دمشق للتعاطي إيجاباً مع الحل السياسي، وتقديم تنازلات من شأنها طمأنة المجتمع الدولي.
ويبدو أن النظام المستعد لتنظيم الانتخابات الرئاسية التي حدد لها موعداً لها في أيار/مايو المقبل، سيضطر لتأجيلها بسبب توافقات المرحلة، التي ترى أنه من المستحيل الموافقة على استكمال مساره بذات الشكل الأحادي. وتسمح خطوة تأجيل الانتخابات حتى توفير بيئة مناسبة، التوافق على خطة طريق تساهم في تنفيذ الالتزامات الدولية والأممية. وبحسب القراءات لما تمخض عنه من الاجتماع الثلاثي فإن تطبيق الحل سيكون وفق القرار الأممي رقم 2254 وهو ما يتعارض تماماً مع الانتخابات التي يتحضر لها النظام، الأمر الذي يدفع موسكو للضغط بجدية من أجل تأجيل توقيتها. وهو ما قد يسبب تضارباً مع مصالح طهران الحليف الثاني للنظام، والتي تتشارك مع روسيا في دعمه. وإن كان سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي، بعث إشارات إيجابية من الدوحة لشريكته إيران، وأكد أن البيان المشترك الأخير، لا يتعارض ومسار أستانة، وليس بديلاً عنه، ولن يقصي بالتالي طهران من المسعى.
ويرى المراقبون أن موسكو ستبذل جهوداً لدفع إيران للتماهي مع الخيار، بغية تحقيق مكاسب، حتى لا يخسر الجميع الخيار، والمضي نحو تسوية الملف الذي استنزف كافة الأطراف.
ويعزز من احتمالية الخطوة الوضع الكارثي الذي يعيشه البلد ومعه النظام في ظل العقوبات المفروضة، وتردّي الحالة الاقتصادية التي تدخل سوريا فعلياً مرحلة الانهيار.
حصيلة كارثية
تفرض الحالة الكارثية التي آل إليها الوضع في سوريا، وخارجها لملايين المهجّرين، التحرك العاجل، والتوافق على خطة الطريق المطروحة. فحصيلة الأزمة السورية مأساوية وكارثية، لدرجة أنه وفق التقارير الأممية الحديثة، فإن البلد يعد فعلياً من أفقر دول العالم الآن، حيث بات زهاء 90 في المئة من سكانه، تحت مستوى خط الفقر، فضلاً عن مقتل وجرح مئات الآلاف، وتشرد الملايين، ودمار مدن ومناطق بأكملها، واستباحة واحتلال للأراضي السورية، من قبل دول إقليمية، ومنظمات متشددة.
تقديم التنازلات شرط محوري
تتحرك بعض الدول الإقليمية توازياً مع جهود الأتراك والروس والقطريين، في اتجاه توفير بيئة حاضنة للنظام، تمهد الطريق لعودته للحضن العربي.
وتنشط في هذا الاتجاه الإمارات، وبدرجة أقل السعودية، حيث تسعى أبو ظبي وتلح على ضرورة عودة سوريا إلى المحيط العربي من جديد عبر جامعة الدول.
وقال وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، في هذا السياق إن عودة سوريا للعمل الإقليمي مع محيطها العربي أمر لا بد منه. وفي ذات الاتجاه عبر فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي عن أهمية إيجاد مسار سياسي يؤدي إلى تسوية واستقرار الوضع في سوريا، وبالتالي عودتها إلى الحضن العربي.
هذا المسعى الذي تتحرك لأجله أبو ظبي ما يزال يواجه بفيتو من عدد من الدول والقوى الإقليمية والدولية، التي تؤكد استحالة تبييض صورة النظام بعد كل المجازر والفظائع والانتهاكات المرتكبة في حق ملايين السوريين.
وما تزال الدوحة مصرة على موقفها من أن النظام المتعنت والرافض لأي حل، لن تتم مكافأته بهدية، تتوج ممارساته وتساهم في ارتكاب المزيد من التجاوزات، ومنحه غطاء يتستر خلفه.
وعبرت قطر صراحة على لسان وزير خارجيتها الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، أن الأسباب التي أدت إلى تعليق عضوية دمشق ما زالت قائمة، وقال: «نتمنى حدوث تقدم سياسي في سوريا، لأنه السبيل الأسلم لعودتها إلى الجامعة العربية». واستطرد أن الدوحة مستمرة في دعم الشعب السوري والوصول لتسوية سياسية تعيد العلاقات لطبيعتها.
تسوية سياسية وتركيز على المسار الإنساني
وحتى تحقيق ذلك تعهد عدد من الدول بضرورة متابعة التزام دمشق تنفيذ المقررات الدولية، والتخلي عن قبضتها الحديدية، التي جلبت الوبال لسوريا.
وفي هذا السياق شدد اجتماع الدوحة الثلاثي على التزام قطر وتركيا وروسيا، الحفاظ على سيادة واستقلال ووحدة أراضي سوريا، وفقاً لميثاق الأمم المتحدة، وإعرابها عن قناعتها بغياب أي حل عسكري للنزاع، والتأكيد على الالتزام بتقديم المساعدة لعملية سياسية تحت إشراف الأمم المتحدة من أجل مساعدة أطراف الأزمة في التوصل إلى حل سياسي وفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254.
يشير المراقبون أن الدوحة وأنقرة ومعها موسكو أبدت استعدادها للإسهام في عمل اللجنة الدستورية من خلال دعم جهود المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا غير بيدرسن عبر التواصل الدائم مع الأطراف السورية وأعضاء اللجنة الدستورية.
وتوازياً مع هذا الخيار ترى الدول الثلاث وفق المتابعين لمخرجات الاجتماع ضرورة التحرك السريع لتطويق الظروف الإنسانية في سوريا، وتبعات جائحة فيروس كورونا في البلاد، وضرورة مضاعفة المساعدات الإنسانية إلى جميع السوريين في كافة أنحاء البلاد بدون أي تمييز وتسييس وفرض شروط مسبقة، ودعت الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة التابعة لها إلى تكثيف مساعيها في هذا السبيل.
وكشفت مصادر أن الدوحة وأنقرة بالتنسيق مع موسكو سوف تكثف في المرحلة المقبلة مساعداتها، من أجل التخفيف من حدة الظروف المأساوية التي تواجه السوريين في الداخل والخارج.
والتزمت روسيا بالعمل على تأمين عملية العودة الطوعية والآمنة للاجئين والنازحين إلى مناطقهم، والتعاون مع جميع الدول المعنية بهذا الشأن، منها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
واستخلصت روسيا في النقاشات التي جرت مع قطر وتركيا الأهمية القصوى لدعم المبادرات الرامية إلى بناء الثقة بين الأطراف السورية، فيما يتعلق بتحرير المحتجزين، بالدرجة الأولى النساء والأطفال والمسنين.
ويتوقع مراقبون أن تدفع موسكو نحو التزام دمشق تقديم عربون جدية وتبادر نحو تجاوز تلك القبضة، وتتجه نحو إطلاق سراح آلاف المحتجزين والمعتقلين، ووقف المتابعات التي استهدفت النشطاء.
وستكون المرحلة المقبلة محورية في المسار السوري، مع توقع وترقب لما ستؤول إليه الأمور مع النظام، ومدى جديته الالتزام بالدعوات الدولية لإنهاء الأزمة، والانفتاح على المطالب التي تدعوه إلى تحقيق مناخ إيجابي لحلحلة الصراع، ووضع حد لممارساته.
المصدر: القدس العربي