بحث
بحث
ثلاثة نماذج متمايزة لمصير الفاعلين الاجتماعيين المؤثرين في مناطق تسويات ريف دمشق
مسارات الشرق الأوسط- Middle East Directions

مصالحات ريف دمشق: هل من تمثيل باقٍ للمجتمعات المحلية؟

ثلاثة نماذج متمايزة لمصير الفاعلين الاجتماعيين المؤثرين في مناطق تسويات ريف دمشق

ملخص تنفيذي
بعد عامين من استعادة النظام السوري سيطرته عسكرياً على جميع أنحاء ريف دمشق، يبدو مصير الفاعلين الاجتماعيين المؤثرين، من وجهاء ورجال دين ورجال أعمال ونشطاء مدنيين وقادة عسكريين، مختلفاً من منطقة إلى أخرى، تبعاً لعوامل متعددة منها مستوى التهجير والتدخل الأجنبي. وقد ظهر نتيجة التحليل وجود ثلاثة نماذج متمايزة.

النموذج الأول، يمثّل المناطق التي خضعت لحرب عنيفة، نتج عنها تهجير قسري لكامل أو معظم السكان، مدعوماً بقوة التدخل الأجنبي. وفي هذه المناطق، التي باتت رهينة النفوذ الأجنبي، خضعت المجتمعات المحلية لصدمة كبيرة، تخلخل معها نسيجها الاجتماعي، وفقدت أبرز فاعليها الاجتماعيين. النموذج الثاني، ويمثّلُ المناطق التي شهدت تهجيراً جزئياً، وسط تدخل خارجي محدود. وفي هذه المناطق تراجع دور وحضور الفاعلين الاجتماعيين المحليين الذين قرروا البقاء بعد المصالحة. النموذج الثالث، ويشمل مناطق شهدت تهجيراً جزئياً، وسط تدخل خارجي محدود، ولكن تمكن الفاعلون فيها من الاستمرار ضمن أشكال متعددة. التمايز في مصائر الفاعلين ضمن هذه النماذج الثلاثة، هو أشبه بمسارات متوازية عاشتها مناطق ريف دمشق ذات الخلفيات الاجتماعية المتقاربة، بعدما أثرت عليها مجموعة مختلفة من العوامل الداخلية والخارجية. 

مقدمة
استعاد النظام السوري سيطرته العسكرية والأمنية، على كامل ريف دمشق، ما بين العامين ٢٠١٦ و٢٠١٨ كنتيجة لاتفاقيات المصالحة المنعقدة مع القوى العسكرية المعارضة. وتتشابه الخلفيات الاجتماعية ما قبل العام ٢٠١١ لبعض مناطق المصالحات بريف دمشق، بالخطوط العريضة، من حيث مستوى المعيشة والفضاء الديني والهوى السياسي. وكذلك تتشابه تلك المناطق من حيث الظروف القسرية المتماثلة التي عاشتها بعد العام ٢٠١١ من حرب وحصار ومصالحة وتهجير. ومع ذلك، لم ينتج عن ذلك مسارات متماثلة في مرحلة ما بعد المصالحة.

ظهرت الكثير من الدراسات التي تناولت هذه المناطق خلال فترة الحرب وعمليات المصالحة في السنوات الأخيرة. وإذ تعطي بعض الدراسات توصيفاً للأدوار التي لعبتها مكونات اجتماعية معيّنة خلال فترة الحرب، بينما ركز بعضها على فعل الوساطة أثناء المصالحة بحد ذاته، أو على مدى فاعلية الوساطة في مرحلة ما بعد المصالحة، لكن بالكاد هناك دراسات تقارن التغيّرات في هذه المناطق. من هنا، جاءت هذه الورقة لتقدم إطاراً مفاهيمياً جديداً يقوم على دراسة مقارنة لمآلات ست مناطق في الريف الدمشقي بعد مرور بضع سنوات على المصالحة فيها. وتحاول هذه الدراسة الإجابة عن سؤال البحث التالي: ما هي العوامل الأساسية التي تفسّر استمرار أو تغيّير الفاعلين الاجتماعيين المحليين وأدوارهم، ممن شاركوا في عملية المصالحة على وجه الخصوص، في فترة ما بعد مرحلة المصالحة؟ 

للإجابة على هذا السؤال، اعتمدت هذه الورقة على سلسلة من المقابلات الأولية التي تم اجراؤها مع العديد من الفاعلين المحليين المدنيين والعسكريين، تتعلق بمسارات التفاوض وعمليات المصالحة، في ست حالات دراسية من محافظة ريف دمشق، وهي؛ الزبداني ودوما، يلدا وقدسيا، التل ومعضمية الشام. تبدأ الورقة في جزئها الأول بتقديم إطار مفاهيمي قائم على المعطيات التجريبية التي تم جمعها من هذه المناطق وتحليلها. ثم تشرح العوامل التي تم اعتمادها لتصنيف تلك الحالات الدراسية ضمن نماذج أساسية، بعد استخلاص الفروقات والقواسم المشتركة. ثم تعرض الورقة ثلاثة نماذج مختلفة في مصير الفاعلين المحليين؛ النموذج الأول الذي يضم الزبداني ودوما، والقائم على الغياب الكبير للفاعلين الاجتماعيين فيهما بعد المصالحة. والنموذج الثاني يضم يلدا وقدسيا، حيث ما زال الفاعلون الاجتماعيون موجودين، ولكن دورهم تعرض للتهميش التدريجي. والنموذج الثالث يضم التل ومعضمية الشام، وفيهما تمكن بعض الفاعلين المحليين من البقاء والحفاظ على دور لهم في مرحلة ما بعد المصالحة.

مجموعة الأدلة المتضمنة في هذه الدراسة هي في المقام الأول بيانات أولية تم جمعها من خلال جولات متعددة من ٤٨ مقابلة شبه منظمة أجراها الباحث في الفترة ما بين حزيران وآب ٢٠٢٠ مع نشطاء وباحثين، وأعضاء لجان مصالحة ومجالس محلية ومسؤولين سابقين في السلطات المحلية. كما جمَعَ الباحث عدداً كبيراً من المقالات ذات الصلة، وعمل على تحليلها، والتدقيق في المعلومات الواردة فيها بمقارنتها مع مصادر الإنترنت المفتوحة، والأرشيف الشخصي. كذلك استند الباحث إلى الأدبيّات المتاحة ذات الصلة، من أجل وضع الإطار العام للبحث وصياغة أسئلته المركزية. أخيراً، إن البيانات المقدمة في هذه الورقة مأخوذة بمعظمها من المقابلات، ما لم يُذكر أو يُستشهد بغير ذلك.

الجزء الأول: عوامل تغيّر واستمرار الفاعلين المحليين
بناءً على منهج البحث الاستقرائي المتمثل بالانتقال من ملاحظة الظواهر وجمع وتحليل المعلومات والبيانات الأولية، بغرض الوصول إلى روابط وعلاقات كليّة، تبين أربعة عوامل رئيسية لفهم الاختلافات في عملية استمرار أو تبدل الفاعلين المحليين في فترة ما بعد المصالحة.

أولا، تَدّخُل القوى الأجنبية في مسار المفاوضات والمصالحة واستمرار وجودها على الأرض في حقبة ما بعد المصالحة. وفي حالة ريف دمشق، فإن هذه القوى الأجنبية هي روسيا وإيران عبر ذراعها المتمثلة بميليشيا حزب الله اللبنانية. أما فيما يتعلق بنوع التدخل واستمرار الوجود على الأرض، فقد تمّ التمييّز بين نوعين أساسيين: الأول، التدخل الحاسم والذي تكون فيه القوة الأجنبية قد شاركت بالأعمال القتالية ولعبت دوراً تفاوضياً أساسياً في اتفاق المصالحة، وحافظت على وجود عسكري دائم لها داخل المنطقة بعد انتهاء المصالحة كما في الزبداني. أما النوع الثاني، فهو التدخل المحدود أو المؤثر، وفيه تكون فيه القوة الأجنبية قد شاركت في بعض أو كل الفعاليات التالية: القتال، تيّسير التفاوض، ضامن من طرف النظام في اتفاق المصالحة. ولكن، لم تحافظ تلك القوة على وجود عسكري متواصل لها بعد انتهاء المصالحة كما في يلدا.

ثانياً، التهجير القسري المفروض على كامل السكان، أو جزء منهم. وبحسب نسبة وطريقة وقوعه، ساهم التهجير في خلخلة أو تغيير البنية الاجتماعية في المنطقة المستهدفة، وبالتالي الفاعلين وشبكاتهم الاجتماعية. وهنا، يمكننا ملاحظة نوعين من التهجير: أولاً، تهجير غير تمييزي شمل أعداداً كبيرة من السكان، ولكن تم السماح لجزء من السكان بالعودة بعد الحصول على الموافقات الأمنية اللازمة كما في الزبداني. ثانياً: تهجير جزئي، شمل قلّة من السكان وركز على شرائح معينة غالباً ما استهدفت الفاعلين والناشطين في فترة سيطرة المعارضة المسلحة كما في قدسيا.

أما العامل الثالث، فيتعلق بتركيب لجان المصالحة ومدى متانة روابطها مع المجتمعات المحلية التي تمثّلها. غالباً ما تمّ تشكيل لجان المصالحة بضغط من النظام، عبر اختيار ممثلين عن الأهالي، لا عن المعارضة. وبالتالي، فإن تمثيل لجان المصالحة قد تمّ بناءً على الروابط الأكثر هيمنة في المجتمعات المحلية. وهنا، حددت الدراسة أربعة أنوع من الروابط: أولاً، الروابط الدينية، أو الصوفية على وجه التحديد، والتي ساهمت في بروز عدد كبير من مشايخ الصوفية كممثلين عن المجتمعات المحلية في لجان المصالحة بالاعتماد على نفوذهم ونفوذ أتباعهم كما في قدسيا. ثانياً، الروابط الاجتماعية المتمثلة بالقرابة، والتي ساهمت في بروز فاعلين محليين استفادوا من روابط الدم التي تجمعهم مع السكان المحليين للعب دور بارز في تشكيل المشهد السياسي والعسكري المحلي خلال فترة الحرب، وتمثيل مجتمعاتهم خلال مسار المفاوضات والمصالحة مع النظام السوري كما في التل. ثالثاً، الروابط الاجتماعية القائمة على المعرفة الشخصية، ما بين أعضاء لجان المصالحة وبين ضباط نافذين من قوات النظام. ورابعاً، الرابط بين رفاق السلاح، الناشئ بين أعضاء المجموعة المسلحة، التي نقلت البندقية من كتف المعارضة إلى كتف النظام، وحافظت نسبياً على انسجامها الداخلي كما في حالة معضمية الشام.

وأخيراً، يتعلق العامل الرابع بنهج النظام في إعادة تركيب وهيكلة السلطات المحلية، ومؤسسات الدولة المحلية، من الأعلى، في مرحلة ما بعد المصالحة. وإذ آثر النظام استيعاب بعض أطياف المعارضة والمجتمع المدني في بعض المؤسسات التمثيلية كالمجالس البلدية، جرت عمليات نبذ لمن كان في موقع المسؤولية خلال فترة سيطرة المعارضة. وأهم التعيينات الجديدة تلك التي رافقت انتخابات الإدارة المحلية في أيلول ٢٠١٨، وتعيينات أعضاء قيادات منظمات حزب البعث نهاية العام ٢٠١٩ ومطلع العام ٢٠٢٠، وانتخابات مجلس الشعب في تموز ٢٠٢٠. لم تتمتع العمليات الانتخابية للمجالس البلدية ومجلس الشعب بالشفافية، وغالباً ما شهدت وجود لائحة واحدة فقط لمرشحي السلطة، وبالتالي كانت نتائجها أشبه بعمليات التزكية والتعيين التي جاءت كمكافأة لمن حافظوا على ولائهم للنظام خلال السنوات الماضية.

شكل رقم ١: مخطط لتفاعل العوامل الأربعة

بناءً على هذه العوامل الأربعة (الشكل ١)، يمكن تصنيف الفاعلين المحليين في بلدات ريف دمشق حسب ثلاثة أنماط رئيسية في فترة ما بعد المصالحة:

النموذج الأول: يضمّ مناطق شهدت عملية طرد جميع فاعليها الاجتماعيين الذين ظهروا خلال فترة سيطرة المعارضة، وإعادة إنتاج طبقة جديدة من الفاعلين، مع تركيب هياكل السلطات المحلية من الأعلى. ويشمل النموذج مدينتي الزبداني ودوما، اللتين خضعتا لتهجير قسري عنيف، لكامل أو لجزء كبير من السكان، وسط تدخل أجنبي حاسم في مجريات المعارك والتفاوض، وما بعد المصالحة.

النموذج الثاني: مناطق شهدت تلاشياً وتهميشاً تدريجياً للفاعلين المحليين اللذين بقوا في مناطقهم بعد المصالحة، وهم ممن برز دورهم خلال فترة سيطرة المعارضة. ويشمل النموذج قدسيا ويلدا، اللتين شهدتا تهجيراً جزئياً، وتدخلاً خارجياً مؤثراً، لكن الفاعلين فيهما تمكنوا من الاستمرار في مرحلة المصالحة، بالاستناد إلى خلفياتهم الصوفية-الدينية التي شكلت رابطاً اجتماعياً جمع بينهم. وبعد فترة وجيزة من استتباب الأمور الأمنية في مناطقهم، بدأ حضورهم ودورهم يخبوا تدريجياً.

النموذج الثالث: مناطق شهدت استمرارية نسبية واحتواءً لدور الفاعلين المحليين الذين برزوا خلال فترة سيطرة المعارضة، ولم يتهجروا بعدها. والنموذج يضم التل ومعضمية الشام، اللتين خضعتا للمصالحة والتهجير الجزئي. ولكن، تمكن الفاعلون الاجتماعيون في هذا النموذج من الاستمرار في مرحلة ما بعد المصالحة، بالاعتماد على العلاقات الاجتماعية القائمة على القرابة والمعرفة الشخصية.

خريطة ١: توزع الحالات المدروسة بريف دمشق

الجزء الثاني: إعادة إنتاج الفاعلين المحليين من الأعلى
خضعت مدينتا دوما والزبداني لعمليات عسكرية عنيفة، رافقها مصالحة قسرية هيمنت على مجرياتها قوى خارجية؛ روسيا وإيران عبر حزب الله، إلى حد يمكن فيه اعتبار دوما حالياً منطقة نفوذ روسي، والزبداني منطقة نفوذ لحزب الله. وفي المدينتين، لم تحدث مفاوضات بين لجنة مصالحة من الأهالي وبين قوات النظام، ولم يظهر دور نشط للفاعلين المحليين أثناء المصالحة. بل كانت المصالحة أشبه بعقود الإذعان التي فرضت على المجتمعات المحلية من دون مقابل. التهجير الكبير للسكان، والموجه بشكل رئيسي ضد الفاعلين الاجتماعيين في فترة الحرب أعطى فرصة للنظام، روسيا وحزب الله، بإعادة تعيين شبكة جديدة من الفاعلين الاجتماعيين من الأعلى بصيغة موظفين ضمن مؤسسات الدولة المختلفة. أي اقتصر وجود الفاعلين الحاليين، بشكل خاص في الزبداني، وإلى حد أقل نسبياً في دوما، على التعيينات في هياكل السلطات المحلية. ورغم ذلك، بقيت السلطة المطلقة بيد الأجهزة الأمنية والعسكرية المسيطرة على الأرض. ويشير ذلك إلى ضعف المؤسسات المدنية وعدم فاعلية تمثيلها للمجتمعات المحلية من جهة، وعلى عدم قدرة المجتمعات المحلية على تجاوز صدمتي الحرب والتهجير وبالتالي إنتاج فاعلين محليين جدد من جهة ثانية. 

الزبداني: التهجير الكامل
تقع مدينة الزبداني في مرتفعات القلمون الغربية بالقرب من الحدود السورية-اللبنانية، وهي مركز منطقة إدارية تضم أيضاً بلدتي بلودان ومضايا. ويقدر عدد سكان الزبداني بـ٣٠ ألفاً قبل العام ٢٠١١، معظمهم يشتغلون بالزراعة والسياحة، وبعضهم في تجارة التهريب بين طرفي الحدود السورية-اللبنانية.

خرجت الزبداني عن سيطرة النظام في كانون الثاني ٢٠١٢، وخضعت لسيطرة مجموعة من الفصائل المعارضة أبرزها حركة أحرار الشام الإسلامية. وانتعش في تلك الفترة نشاط مدني معارض، وتشكل مجلس محلي فاعل من أهالي المدينة. وفي الفترة الممتدة بين العامين ٢٠١٢-٢٠١٥، تشكلت نواة للجنة مصالحة من ناشطين ووجهاء ورجال دين، وكان من اعضائها عقيد متقاعد، ورئيس شعبة حزب البعث في المدينة. وتواصلت تلك اللجنة مع ضباط من مكتب القصر الجمهوري، ومن الفرقة الرابعة والأمن العسكري، لحلحلة بعض الأمور اللوجستية وتبادل الأسرى وإدخال الغذاء إلى المدينة.

منذ مطلع العام ٢٠١٥، أحكم حزب الله اللبناني الحصار على الزبداني، لفرض الاستسلام على المقاتلين المتحصنين داخلها، ما تسبب بمجاعة أفضت إلى نزوح معظم المدنيين إلى مضايا وبلودان. حصار حزب الله للزبداني، أخرج ملف التفاوض حول المدينة من يد أبنائها، ومن يد النظام أيضاً. مع بدء اقتحام حزب للزبداني، قال أحد الضباط المفاوضين لعضو لجنة المصالحة بالزبداني: “لم يعد لي سلطة، وعليك أن تفاوض الحاج المسؤول من حزب الله”.

وبذلك، تحول ملف المدينة إلى ميدان للتفاوض بين القوى الإقليمية المتدخلة بالشأن السوري، ما أفقد أبناء المدينة دورهم التمثيلي على طاولة المفاوضات. في أيلول ٢٠١٥، توصل ممثلون عن حركة أحرار الشام الإسلامية ووفد إيراني، في اسطنبول التركية، إلى أول نسخة من اتفاق المدن الأربع. وتفاوضت حركة أحرار الشام الإسلامية عن الزبداني، من منطلق سياستها العامة كحركة اسلامية يغطي نشاطها مساحات واسعة من مناطق المعارضة لا بوصفها ممثلة لأهالي الزبداني. وخضع الاتفاق لتعديلات كثيرة، وعرقلة من مختلف الأطراف، وشهد تنفيذاً جزئياً في تشرين الثاني ٢٠١٥. ومع عودة حزب الله لتشديد الحصار على الزبداني، لم يبق فيها بحلول تشرين ثاني ٢٠١٦ سوى ٢٠٠ شخص، معظمهم من المقاتلين. النسخة الأخيرة من الاتفاق أُنجزت في آذار ٢٠١٧، وتوصل إليها ممثلون عن حركة أحرار الشام وهيئة تحرير الشام، وعن الحرس الثوري الإيراني وحزب الله، في الدوحة برعاية قطرية. وغادر على إثر الاتفاق ٣٥٠٠ مقاتل مع عوائلهم من مضايا، و١٧٠ مقاتلاً من الزبداني وعوائلهم المقيمة في منطقة بلودان، إلى الشمال السوري، مقابل إخلاء أهالي الفوعة وكفريا في ريف إدلب على مراحل. وبذلك باتت الزبداني خالية من أهلها بالكامل.

منذ شباط ٢٠١٨ شهدت الزبداني عودة تدريجية لأهلها الذين نزحوا عنها إلى مناطق سيطرة النظام في ريف دمشق وإلى لبنان، برعاية لجنة مصالحة محلية انحصرت أعمالها بجمع وإعداد لوائح بأسماء الراغبين بالعودة، وتقديمها إلى مكتب الأمن الوطني السوري الذي يصدر بدوره لوائح بأسماء المقبولين أمنياً للعودة. ولم يعد فعلياً إلى المدينة أكثر من ٥ آلاف شخص. وما يزال حزب الله يمنع الأهالي من العودة إلى بعض الأحياء التي اتخذها مربعاً أمنياً له غربي المدينة. كما أن حزب الله يتحكم بجميع المسائل المهمة حتى أنه يتدخل لتحديد من يسمح له من الأهالي بالعودة. وإلى جانب حزب الله، تتقاسم النفوذ على المنطقة عسكرياً وأمنياً كل من الفرقة الرابعة والأمن العسكري، ومجموعات من الدفاع الوطني.

التهجير الكلي للأهالي، ثم القبول بعودة جزئية مشروطة، سمحا للنظام بإعادة تركيب المنطقة اجتماعياً، وإعادة تعيين شبكة جديدة من الموالين له ضمن مؤسسات الدولة المختلفة. في أيلول ٢٠١٨ أعيد تعيين باسل الدالاتي، المقرب من القصر الجمهوري، رئيساً للبلدية. ورغم ذلك، يبدو مجلس المدينة الحالي، شبه معطل وغير قادر على تقديم الخدمات الأساسية، في ظل دمار هائل لحق بالأملاك الخاصة والبنى التحتية إذ قُدّرت نسبة البيوت غير الصالحة للسكن في المدينة بحوالي ٨٠%.

وفيما يعتبر انتقاماً من المدينة، أولى النظام منطقة الزبداني الإدارية، لا مدينة الزبداني مركز المنطقة، أهمية كبيرة في التعيينات اللاحقة في حزب البعث. وركز النظام على مدينة بلودان المجاورة ذات الغالبية المسيحية، لأنها وحدها التي بقيت تحت سيطرة النظام طيلة سنوات الحرب. في العام ٢٠١٨ تمً تعيين رضوان مصطفى، السنيّ من بلودان، أميناً لفرع ريف دمشق لحزب البعث، أرفع منصب سياسي-تنفيذي في ريف دمشق بعد المحافظ. مصطفى، ورغم شغله سابقاً منصب أمين شعبة حزب البعث في الزبداني بين العامين ٢٠٠٣–٢٠٠٦، إلا أنه ليس معروفاً على نطاق واسع في المدينة، بسبب ضعف نشاط الحزب تاريخياً فيها.

الأمر ذاته تكرر في انتخابات مجلس الشعب في تموز ٢٠٢٠، إذ دعم رئيس فرع حزب البعث في ريف دمشق رضوان مصطفى، إعادة انتخاب ابن عمه أسامة مصطفى، وهو من بلودان أيضاً، إلى مجلس الشعب. وأسامة مصطفى هو رئيس غرفة التجارة في ريف دمشق، وأمين سر مجلس الأعمال السوري الصيني. وبالإضافة إلى أسامة مصطفى، وصل أيضاً إلى مجلس الشعب الحالي، عضوان آخران من منطقة الزبداني؛ البعثي عن لوائح الوحدة الوطنية نبيل درويش، من قرية كفر العواميد، وطبيب الأسنان المسيحي ريمون صبرا هلال، ابن بلودان أيضاً، وهو من أقارب وزير التجارة المحلية السابق عاطف النداف.

وبذلك، أتخم النظام منطقة الزبداني بالتمثيل في حزب البعث، ومجلس الشعب بواقع ثلاثة أعضاء من أصل ١٩ نائباً عن ريف دمشق، مع تهميش كامل لممثلي مدينة الزبداني. قد يكون التمثيل المبالغ به لمدن مثل بلودان في منطقة الزبداني تكتيكاً سياسياً اتبعه النظام للقول إن لا مشكلة لديه مع أهالي المنطقة بالعموم، بل فقط مع أهالي مدينة الزبداني. وقد يعود ذلك جزئياً، إلى حالة مدينة الزبداني الحالية الهشة والتصدع الاجتماعي الذي لحق بها نتيجة الحرب والتهجير. كما أن معظم من يعيش اليوم في الزبداني هم من الأطفال والنساء والشيوخ، أو من غير المطلوبين أمنياً، ممن ينتمون للشرائح الاجتماعية الأكثر فقراً، الذين عاد معظمهم إلى المدينة المدمرة نتيجة انعدام خياراتهم الأخرى في السكن.

وبعيداً عن الحالة التمثيلية والتعيينات في مؤسسات الدولة، فقد جرى تمكين بعض المتطوعين في قوات النظام والأجهزة الأمنية، من أهالي البلدة غير البارزين اجتماعياً قبل العام ٢٠١١، وأغلبهم لم ينضموا للمعارضة خلال السنوات الماضية وبقوا في مناطق سيطرة النظام خلال الحصار. ومعظم أولئك كانوا يعملون كمخبرين للأجهزة الأمنية قبل العام ٢٠١١، بالإضافة إلى خلفياتهم المهنية كعاملي مياومة أو حرفيين. ويستثمر هؤلاء الصلاحيات الواسعة الممنوحة لهم في ممارسات تكاد تكون انتقامية من الأهالي؛ كالتشبيح، وفرض الأتاوات والحواجز، ونشر الخوف بين الناس. ومع ذلك، يبقى أقوى المتنفذين حالياً في المدينة هو الحاج علي جواد، من حزب الله اللبناني، والذي كان يعمل بتجارة التهريب بين سوريا ولبنان قبل العام ٢٠١١. ويعمل الحاج علي جواد مساعداً للحاج سمير مسؤول قطاع ريف دمشق الغربي في حزب الله والمقيم في بلودان. وتلجأ الناس لحجاج حزب الله للتوسط لها مع النظام، غالباً مقابل المال.

وبالنتيجة، أعاق إحكام سيطرة حزب الله على الزبداني، عسكرياً وأمنياً، عملية انتاج أي فعاليات اجتماعية جديدة من الأهالي الذين سمح لهم بالعودة. وفعلياً، أتاحت هذه السيطرة لمجموعة من المتطوعين في قوات النظام من أهل الزبداني فرض هيمنتها على الايقاع اليومي لحياة الناس، من دون صفة رسمية. وترافق ذلك مع ضعف المؤسسات الرسمية وعدم قدرتها على إحداث فرق يذكر بتحسين الخدمات والبنى التحتية في المدينة.

دوما: السجن الكبير
دوما هي أكبر مدن غوطة دمشق الشرقية ومركزها الإداري، وأهم مدن محافظة ريف دمشق، وقد بلغ تعداد سكانها حوالي ١١١ ألفاً في آخر تعداد رسمي في العام ٢٠٠٤. وتعتبر دوما محافظة اجتماعياً ومنغلقة على نفسها تجاه الغرباء، رغم أنها رائدة أعمال ريف دمشق بالزراعة وصناعاتها وتجارتها. المدينة كانت معقلاً للحركة الناصرية في سوريا منذ الخمسينيات، وشهدت صعوداً للتيار الوهابي منذ الثمانينيات مع تركز هجرة أبنائها للعمل في السعودية.

وبعد تبادل للسيطرة عليها عدة مرات بين قوات المعارضة والنظام، خرجت دوما عن سيطرة النظام نهائياً في تشرين الأول ٢٠١٢. وسيطرت على المدينة مجموعة من القوى العسكرية المعارضة التي خاضت حرب تصفيات فيما بينها حتى انفرد في النهاية جيش الإسلام بالسيطرة الكلية عليها في العام ٢٠١٤. وزاد عدد سكانها على ٢٠٠ ألف قبل أن يستعيد النظام السيطرة عليها في نيسان ٢٠١٨، حيث تحولها تدريجياً إلى قبلة للنازحين إليها مع تقلص المساحة التي تسيطر عليها المعارضة في الغوطة الشرقية.

وعلى غرار الزبداني، لم تحدث مفاوضات مصالحة في دوما، ولكن لأسباب مختلفة؛ عدم تهديدها عسكرياً من قبل النظام قبل المعركة الأخيرة في نيسان ٢٠١٨، وسيطرة جيش الإسلام شبه المطلقة على المدينة ما كان يُصعّبُ عملية تشكيل لجنة مصالحة من داخل دوما. وبذلك، تشكلت لجنة تواصل خارجية، مشكلة من بعض وجهاء دوما الموالين للنظام والمقيمين في دمشق، تفاوضت في العام ٢٠١٦ بشكل غير مباشر مع جيش الإسلام، من دون نتيجة.

في تموز ٢٠١٧، وقع جيش الإسلام ووفد روسي برعاية مصرية في القاهرة، اتفاقاً لضم دوما ومحيطها، إلى مناطق خفض التصعيد المنبثقة عن مسار استانة. لكن قوات النظام شنّت عملية عسكرية كبرى في شباط ٢٠١٨، بدعم روسي عسكري وسياسي، ودعم إيراني عسكري. وجرت بعد ذلك مفاوضات مباشرة بين ضباط روس وجيش الإسلام، وسط قصف كثيف على دوما، تسبب بموجة نزوح كبيرة عنها. وفي حين كان الروس يعرضون على جيش الإسلام اتفاق مصالحة يتضمن بقاء من يقبل تسوية وضعه وتهجير من يرفض إلى الشمال السوري، كانت قوات النظام تخترق عسكرياً الغوطة الشرقية وتقترب من دوما.

في نسيان ٢٠١٨، وتحت ضغط العمليات العسكرية والقصف المكثف على دوما، بدأت عملية تهجير للآلاف إلى الشمال السوري. وخرج فيها جرحى لجيش الإسلام ومعظم الناشطين المدنيين والمعارضين السياسيين. لكن، جيش الإسلام أصر على البقاء حتى ولو تحول إلى شرطة مدنية في دوما. ومع تعثر المفاوضات، تعرضت دوما لقصف بالغازات الكيماوية السامة، في ١٨ نيسان ٢٠١٨، ما تسبب بمقتل العشرات معظمهم من الأطفال والنساء. وبعيد القصف، وافق جيش الإسلام على إخلاء قواته من دوما والانسحاب إلى الشمال السوري. التهجير القسري شمل ٨ آلاف مقاتل من جيش الإسلام، و٣٠ ألف مدني.

وبعد ذلك، دخلت قوات من الشرطة العسكرية الروسية إلى دوما، وأعلنت وزارة الدفاع الروسية سيطرتها عليها. وبقي في المدينة بحدود ١٠٠ ألف نسمة، من أصل ٢٠٠ ألف، عاشوا تحت تشديد أمني كبير، بسبب الحرص الروسي على ضبط الوضع بعد الهجوم الكيماوي الذي أحدث ردود فعل دولية وقصف أميركي مباشر على مواقع إنتاج السلاح الكيماوي في سوريا.

ويسيطر على دوما منذ نيسان ٢٠١٨ فرع الأمن الداخلي المعروف بفرع الخطيب التابع لجهاز المخابرات العامة “أمن الدولة”. وفي حين يعتبر أمن الدولة من الأجهزة الأمنية السورية الخاضعة للنفوذ الروسي، يحظى فرع الخطيب باهتمام روسي خاص. حتى أن خروج المدنيين ودخولهم إلى المدينة، ظلّ يتطلب موافقة رسمية من الفرع حتى مطلع العام ٢٠٢٠. في المقابل، يحاول عناصر الشرطة العسكرية الروسية، وأغلبهم شيشان مسلمون، التقرب من سكان دوما والصلاة في جوامعها.

خلال العامين الماضيين، حوّل فرع أمن الدولة دوما إلى سجن كبير، وكثيراً ما أغلق المعبر الوحيد منها إلى دمشق، من دون أسباب واضحة، فيما بدا أحياناً مجرد عقاب للمدينة. وتولى فرع أمن الدولة إجراء عملية التسوية لجميع سكان المدينة، وأصبح لاحقاً المسؤول عن التجنيد للشباب الذكور في سن الخدمة العسكرية. الشراكة بين الشرطة العسكرية الروسية وجهاز أمن الدولة في دوما ومحيطها، سمحت في أكثر من مناسبة، بطرد دوريات من الشرطة العسكرية السورية وقوات من الفرقة الرابعة عند أي محاولة لإقامة مواقع أو نصب حواجز، أو لتنفيذ اعتقالات داخل المدينة.

وبعد إحكام السيطرة الأمنية والعسكرية الروسية على المدينة، بدأت عملية تركيب هياكل السلطات المدنية المحلية ومؤسسات الدولة من الأعلى. تهجير العدد الأكبر من الفاعلين الاجتماعيين (أعضاء المجلس المحلي، والدفاع المدني، والمنظمات غير الحكومية.) خلال فترة سيطرة المعارضة، خلّف فراغاً كبيراً في النسيج الاجتماعي نظراً لأن دوما كانت تمثّل مركز الثقل الأكبر لحكم المعارضة في الغوطة الشرقية. ولتجاوز ذلك الفراغ، تم تعيين موظفي السلطات المدنية ومؤسسات الدولة من الموالين للنظام، وأغلبهم من المقيمين في دمشق أثناء فترة سيطرة المعارضة على المدينة.

جرت انتخابات الإدارة المحلية في أيلول ٢٠١٨، فقط بعد ٥ شهور من استسلام المعارضة في دوما. وجاءت الانتخابات أشبه بالتعيين والتزكية مع انسحاب لائحة شكلية للمستقلين، لصالح لائحة الوحدة الوطنية التي فازت بأكملها. وصل إلى مجلس مدينة دوما أعضاءٌ يمثلون أهم العائلات الكبيرة وذات الحضور الاجتماعي البارز (طه، سريول، شيخ القصير، هارون، معيكة، عيون، خبية، الساعور، الدرة، سلام)، إلا أنهم بالمعنى الشخصي يفتقرون إلى النفوذ ويعتبرون من الأضعف في عائلاتهم، ما ساهم في بقائهم معتمدين على ارتباطاتهم الأمنية أكثر من شبكاتهم العائلية. ويضاف إلى ذلك، أن معظم أعضاء المجلس الحالي هم من أهالي دوما المقيمين في مناطق سيطرة النظام، وما يزال معظمهم يزور دوما فقط في أوقات انعقاد اجتماعات مجلس المدينة. بعض أعضاء لجنة التواصل الخارجية وجدوا طريقهم إلى مجلس مدينة دوما، مثل محروس شغري، المطرب الشعبي والوجيه الدوماني، وأحد مؤسسي ميليشيا جيش الوفاء الذي قاتل إلى جانب النظام ضد المعارضة في دوما. كما أن نسبة معتبرة من أعضاء مجلس المدينة حالياً هم من أقارب مسؤولين نافذين أو أعضاء مجلس شعب. مثلاً، ياسر عدس، عضو مجلس مدينة دوما الحالي، هو ابن راتب عدس النائب السابق لمحافظ ريف دمشق، والرئيس الأسبق لمجلس مدينة دوما. ويبدو أن وراء استبعاد راتب عدس، عن رئاسة مجلس مدينة دوما الجديد، جاء بضغط روسي بسبب قربه من الجانب الإيراني، ودخوله إلى المدينة على رأس وفد رسمي برفقة مستشار المرشد الإيراني للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي، في نيسان ٢٠١٨.

على غير العادة، لم تحظَ مدينة دوما في انتخابات مجلس الشعب بمرشح على لوائح الوحدة الوطنية عن ريف دمشق رغم أنها المدينة الأكبر فيه. الملفت هنا، أن عضو مجلس الشعب السابق محمد خير سريول، كان قد نجح في نتائج الاستئناس لحزب البعث ليكون على لائحة الوحدة الوطنية، لكن تم إسقاط اسمه لاحقاً، رغم أنه كان أبرز أعضاء لجنة التواصل الخارجية وعمل على تطويع الشباب في صفوف الميليشيات المحلية والقتال إلى جانب النظام. في المقابل، نجح رجل الأعمال المستقل عامر خيتي، الذي كان قد غادر دوما بعد العام ٢٠١١ مشهراً إفلاسه، وانتقل بعدها للعمل في لبنان مع رجال أعمال مقربين من حزب الله، من المعروفين بتجارة المخدرات. بعد ذلك صعد نجم خيتي، وهو من عائلة كبيرة في دوما وجده كان عضواً في أول برلمان سوري في العام ١٩٢٦، وتسلّم رئاسة لجنة المواد الغذائية في مجلس رجال الأعمال السوري الإيراني، ورئاسة لجنة تجار ومصدري الخضار والفواكه. خيتي، وبالإضافة إلى شركاته التجارية، هو رئيس لجنة العمل التنموي الخيرية في دوما، التي قام من خلالها بتمويل العديد من مشاريع الترميم والتأهيل لمدارس ومواقع رسمية، في معرض حملته الانتخابية. ولجنة العمل التنموي تابعة لمجلس مدينة دوما، ولكنها فعلياً تمثّل ذراعاً لخيتي في المجلس، ولم تعرف عنها أي أعمال بعد انتهاء حملته الانتخابية.

وبعيداً عن المناصب الرسمية، تم تهمّيش معظم وجهاء دوما من رجال الدين، ممن بقوا في المدينة، حتى ولو كانوا من الموالين للنظام. وطال ذلك حتى من اعتمد عليهم النظام أثناء السيطرة العسكرية على المدينة، مثل الشيخ عبد الحميد دلوان، أول من خطب في جامع دوما الكبير بعد انسحاب المعارضة. في المقابل، أبقى النظام على الوجهاء من التجار الدومانيين، الذين لم ظلوا داعمين له أو وقفوا على الحياد خلال فترة سيطرة المعارضة. وبرز من أولئك أحمد مرعي، وكيل الشركة السورية للكابلات في الغوطة، والذي يحتكر حالياً تجارة المواد الكهربائية في دوما. أيضاً، لم تتوقف أعمال أبو مهدي الوزير، أحد أكبر تجار الحديد في سوريا منذ ما قبل العام ٢٠١١، والذي ظل داعماً للنظام خلال السنوات الماضية. من جهة أخرى، تعرض كل من دعم المعارضة من التجار للملاحقة والتضييق. مثلاً، ألقي القبض على أبو راتب قشوع، من كبار تجار دوما وداعمي العمل الانساني أثناء الحصار، بعد ٣ شهور من المصالحة، وما زال مصيره مجهولاً.

ورغم محاولة ملء الفراغ من الأعلى، فإن النظام يستسهل عملية الإطاحة بالفاعلين الرسميين الموالين له، من موظفي مؤسسات الدولة الرسمية، والأجهزة الأمنية، مهما علا شأنهم، ومن دون تبرير. رئيس مجلس مدينة دوما المهندس نبيل طه، المنتخب في ٢٠١٨، اعتقل في كانون أول ٢٠١٩، وتعرض للضرب والإهانة في مديرية شرطة منطقة دوما، أمام الناس، فيما قيل أنه بطلب روسي على خلفية تحقيق بملف فساد. الاعتقالات لم تستثن ضباطاً موالين للروس، إذ اعتقلت دورية مشتركة من الشرطة العسكرية الروسية وأمن الدولة، في شباط ٢٠٢٠، كلاً من رئيس شعبة التجنيد في مدينة دوما، وكذلك رئيس الجهاز الأمني الأقوى في المدينة؛ فرع أمن الدولة.

وبخلاف الوضع في الزبداني، أعادت السيطرة الأجنبية على دوما انتاج مؤسسات الدولة، خاصة الأجهزة الأمنية ووضعتها تحت سيطرتها المباشرة. ولذا، وعلى عكس الزبداني أيضاً، تشهد المدينة حالة من الخضوع الكثيف للدولة وأجهزتها، ومن خلفها روسيا. وبالتالي، ظهرت طبقة من الموظفين القادرة نسبياً على التخاطب مع المجتمع المحلي مستندة إلى ثقالة البيروقراطية، لا إلى كونها فاعلة على صعيد شخوصها. وهذه الطبقة تشمل موظفي مؤسسات القطاع العام كالكهرباء والمالية ومديرية التعليم، وكذلك أعضاء مجلس المدينة.

الجزء الثالث: تهميش الفاعلين المحليين من لجان المصالحات
شهدت مدينة قدسيا، وبلدة يلدا، هدناً محلية مبكرة، بين العامين ٢٠١٣ و٢٠١٤ قبل إتمام عمليات المصالحة النهائية فيهما في العام ٢٠١٨. وكان للجان المصالحة المحلية في هاتين المدينتين دور كبير في تهيئة المجتمعات المحلية لتقبّل عودة النظام. أي بعكس نموذج دوما والزبداني، لم يحدث تهجير واسع النطاق، ما عنى بقاء بعض القواعد الاجتماعية المحلية فاعلة. لكن، سرعان ما تراجع دور هؤلاء الفاعلين الاجتماعيين المحليين بشكل واضح، بعد المصالحة، إلى حد التلاشي حالياً. وفي حين لم يسجل في قدسيا سوى حضور روسي بسيط خلال مرحلة التفاوض، حاولت لجنة المصالحة في يلدا إدخال روسيا تارة وإيران تارة أخرى، لتعزيز موقعها أثناء التفاوض مع النظام. ويمكن اعتبار التدخل الخارجي في هاتين الحالتين مؤثراً، ولكن بقي للنظام فيه الكلمة العليا في اتفاقيات المصالحة وما أعقبها.

أبرز ملامح هذا النموذج هي هيمنة شيوخ الصوفية في مرحلتي الثورة والمصالحة، كأبرز الفاعلين الاجتماعيين، مدعومين بشكل مباشر من أجهزة النظام الأمنية في حالة يلدا، أو مؤسسة إفتاء دمشق وريفها في حالة قدسيا. النظام كان قد وجد في المشيخة المحلّية الصوفية أحد أبرز أشكال الوسطاء، لقدرتها الكبيرة على التأثير في محيطها الاجتماعي، واعتمادها لخطاب ديني “معتدل” يرفض الخروج على الحاكم، ويتبادل الجفاء مع المعارضة خاصة التيارات السلفية فيها. لكن، مع استتباب الوضع الأمني، انتفت حاجة النظام للمشايخ، فتراجع دورهم تدريجياً. وتبدو إحدى أكبر المشاكل التي عانى منها مشايخ الصوفية في هذا المناطق، هي تأييدهم للثورة عند انطلاقها، قبل حدوث تحوّل جذري في موقفهم وتأييدهم للنظام ما بعد العام ٢٠١٤. ويعود ذلك لصعود التيار السلفي في صفوف المعارضة، وحرب المواقع بين الصوفية والسلفية على قيادة مناطقهم. إلا أن تبديل مشايخ الصوفية لولائهم السياسي، تسبب بفقدانهم ثقة المعارضة، ولم يكسبهم في الوقت ذاته ثقة النظام، ما سهّل عملية تهميشهم لاحقاً، بعدما فُقِدَت الحاجة لهم في السيطرة على المجتمعات المحلية. 

قدسيا والهامة: الاغتيال الفعلي للمصالحة
تقع مدينة قدسيا على مجرى نهر بردى غربي دمشق، وتشكل مع بلدة الهامة المجاورة منطقة منسجمة اجتماعياً تربط بين سكانهما أواصر القرابة العائلية، وتقطنها أكثرية سنيّة محافظة يغلب عليها أتباع الصوفية من تلاميذ الشيخين رجب ديب الذي توفي في العام ٢٠١٦، ومفتي دمشق وريفها عدنان الأفيوني الذي قتل في تشرين أول ٢٠٢٠. ولطالما اعتمدت المنطقة اقتصادياً على التجارة وتعهدات البناء والسياحة. ويقدر عدد سكان قدسيا ما قبل العام ٢٠١١ بحدود ١٥٠ ألفاً، في حين كان يقطن في الهامة ٤٥ ألفاً. وكانت وحدات من الجيش، أهمها الحرس الجمهوري، قد استملكت مساحات واسعة من أراضي الهامة وقدسيا، وأقامت عليها جمعيات سكنية لعائلات الضباط تحولت مع الوقت إلى تجمعات سكانية تضم آلاف السكان أغلبهم من الطائفة العلوية. وانقلب ذلك إلى مصدر للتوتر الأهلي والصراع منذ العام ٢٠١١.

خرجت المنطقة عن سيطرة النظام منذ بداية العام ٢٠١٢، وخضعت لحصار خانق فرضته قوات الحرس الجمهوري وميليشيات أهلية علوية، بينما تولت فصائل محلية مسلحة الدفاع عن المنطقة. ومنذ بداية سيطرة المعارضة تشكلت لجان مصالحة أهلية فاوضت النظام بخصوص المحروقات والطعام والأسرى. وفي حين شكل الأهالي لجنة المصالحة في قدسيا في منتصف العام ٢٠١٢، وترأسها الشيخ عادل مستو المقرب من الشيخ عدنان الأفيوني، فإن لجنة المصالحة في الهامة، كانت أكثر تمثيلاً للمعارضة، وضمّت ناشطين بارزين وشيوخ دين.

في تشرين ثاني ٢٠١٥، وعقب اشتباكات عنيفة، عُقدَ اتفاق مصالحة، أشرف عليه الحرس الجمهوري وخرج بموجبه ١٣٥ شخصاً من المنطقة إلى إدلب، مقابل فك الحصار عن المنطقة. ولم يصمد الاتفاق طويلاً، إذ عاد النظام لتشديد الحصار، وزادت حدة العمليات العسكرية والقصف على المنطقة. في أكتوبر ٢٠١٦، وسط التصعيد العسكري ضد المنطقة، طرح النظام مبادرة تسوية نهائية تتضمن تسليم المعارضة لسلاحها وتسوية الأوضاع الأمنية لمن يرغب وتهجير من يرفض، مقابل إنهاء حصار الهامة وقدسيا. وواكب الضغط العسكري مظاهرات أهلية في قدسيا داعمة للتسوية ورافضة للتهجير، فيما سيتحول إلى نمط كرسته لجان المصالحة بإظهار قبولها بالتسوية كاستجابة للضغوط الشعبية.

ونص اتفاق المصالحة على اعتبار الحرس الجمهوري المسؤول الأول عن تنفيذ المصالحة ومتابعتها، في حين اعتُبِرَ مفتي دمشق وريفها عدنان الأفيوني مشرفاً على التنفيذ. في الوقت ذاته، تولت شعبة الأمن السياسي التابعة لوزارة الداخلية المسؤولية الأمنية في الهامة وقدسيا. وعلى إثر ذلك، صدرت لائحة بأسماء فرض عليهم النظام مغادرة المنطقة، وضمت ٢٠٠ شخص من قدسيا، و١١٧ شخصاً من الهامة منهم عضوين في لجنة المصالحة. وبلغ العدد الإجمالي لمن رفضوا التسوية ونزحوا إلى إدلب ٢٣٦٤ شخصاً، معظمهم من المدنيين. وتقدر حالياً أعداد السكان في قدسيا بحدود ٢٢٥ ألفاً، بينما يقطن الهامة بحدود ٦٠ ألفاً، ويعود ازدياد عدد السكان إلى موجة النزوح خلال الحرب من مناطق أخرى إلى قدسيا والهامة بوصفهما مناطق هادئة نسبياً.

في آذار ٢٠١٧، بدأ النظام انقلابه على اتفاق التسوية، وفرض على الشباب التطوع في الحرس الجمهوري، وقتال المعارضة خارج المنطقة. في نيسان ٢٠١٨، تم استدعاء أكثر من ٤٠ شخصاً في بلدة قدسيا، للتحقيق من قبل الأمن السياسي بتهم “فساد”، والكثير منهم يعمل في ملف المُصالحة، وأبرزهم قائد اللجان الشعبية، ومختاري قدسيا. وكان الأمن السياسي قد اعتقل في وقت سابق عضو لجنة مصالحة قدسيا بسام البوشي. في حزيران ٢٠١٨، بات قرابة ٢٠٠ شخص من أبناء قدسيا، وبينهم أعضاء لجنة المصالحة، مطلوبين لفرع الأمن الجنائي، الذي أصبح القوة الضاربة بيد الأمن السياسي في المنطقة. لجنة المصالحة لجأت إلى الشيخ عدنان الأفيوني، الذي توجه بدوره إلى القائد العام للحرس الجمهوري لإيجاد حل وإيقاف اعتقال شباب قدسيا، ولكن من دون نتيجة. في تموز ٢٠١٨، تم اعتقال عضو لجنة المصالحة مأمون النمر، وأحد أبرز وجهاء الهامة، لمدة عام كامل.

لجنة مصالحة قدسيا فقدت مع الوقت نفوذها، ولم يعد لها تأثير، لا على النظام ولا بين سكان المدينة. في آذار ٢٠٢٠ تم اعتقال سعيد مستو، ابن الشيخ عادل مستو، وتحويله إلى سجن صيدنايا العسكري، ما أشار بوضوح إلى تراجع مكانة الشيخ عادل مستو لدى النظام. ولم يفرج النظام عن الشاب المتطوع في ميليشيا تابعة للحرس الجمهوري، إلا بعد تدخل الشيخ عدنان الأفيوني شخصياً. وعلى العكس، ما زال للجنة الهامة تأثير أكبر، ويعود إلى ذلك نسبياً إلى ضعف الرابط الديني-الصوفي بين أعضاء لجنة الهامة، لصالح الروابط العائلية والأهلية.

في ٢٢ تشرين الأول ٢٠٢٠، انفجرت سيّارة الشّيخ عدنان الأفيوني، عقب خروجه من درسه في جامع الصحابة بقدسيا، ما تسبب بمقتله على الفور، في حين نجا الشيخ عادل مستو. والأفيوني من مشايخ الصوفية بدمشق، وظل خطيباً في جامع الصّحابة في قدسيا حتى العام ٢٠١٣ عندما تمّ تعيينه مفتياً ثالثاً لدمشق وريفها. ومنذ ذلك الوقت، حلّ الشيخ عادل مستو خطيباً محل الأفيوني الذي احتفظ فقط بدرسه الأسبوعيّ في الجامع. ولعب الأفيوني دوراً مهماً في إنجاز المصالحات والتهجير، خاصة في داريا وقدسيا، المعروفتين بانتشار واسع لتلاميذه ومؤيديه. كما تمّ تعيين الأفيوني مديراً لمركز الشّام الإسلامي الدّولي لمواجهة الإرهاب والتّطرّف، وعمل فيه على صياغة الخطاب الدّعوي للنّظام في مواجهة الثّورة. وبمقتل الأفيوني، مهما يكن الفاعل، تكون المصالحات التي أشرف عليها في ريف دمشق قد تعرضت لنكسة قوية بخسارة داعمها الأكبر، ما زاد من خسائر مشايخ الصوفية.

وكما جرت العادة في المناطق التي استعادها النظام، في أيلول ٢٠١٨ تم تعيين رئيس شعبة حزب البعث نبيل رزمة، المقرب من الحرس الجمهوري، لرئاسة مجلس المدينة. وحافظ رزمة على المنصبين معاً، حتى اغتياله في آب ٢٠١٩، بانفجار عبوة ناسفة في سيارته. كما أن حزب البعث استفاد من النزوح الكبير إلى الهامة وقدسيا فأعاد رفد صفوفه في المنطقة بأعداد كبيرة من النازحين، حتى بات معظم أعضاء قيادة شعب الحزب فيهما من النازحين.

وفي النهاية يمكن القول إنه رغم كونهما منطقة واحدة متشابهة ومتجانسة اجتماعياً ودينياً، وخضوعهما لذات الظروف من الحصار والحرب، أظهرت مرحلة ما بعد المصالحة في قدسيا والهامة فروقاً جوهرية، تتعلق بتكوين لجنة المصالحة في كل منهما. في حين هيمنت الجماعة الصوفية على مرحلة المصالحة في قدسيا، خبا دورها مع الوقت ولم تنجح بتكريس نفسها كفاعل اجتماعي، بينما ساهمت العلاقات العائلية التي لعبت دوراً أوسع في تشكيل لجنة الهامة بإبقاء دور لبعض الفاعلين فيها فيما بعد مرحلة المصالحة. وكما ستظهر الأقسام اللاحقة في الورقة، سيتكرر نموذج قدسيا في حالة يلدا وجنوبي دمشق، في حين أن نموذج الهامة سيجد صدى مشابهاً له في معضمية الشام.

يلدا والجنوب الدمشقي: نزاعات لجان المصالحة
تقع يلدا في ناحية ببيلا الإدارية، التابعة بدورها لمنطقة مركز ريف دمشق، وكان يقطنها قبل العام ٢٠١١ بحدود ٢٠ ألف نسمة. وتشكل يلدا، وببيلا وبيت سحم، امتداداً واحداً لمجتمع عائلي محافظ، أغلبيته سنيّة تتبع الطريقة الصوفية. وتعرف هذه البلدات الثلاث باسم بلدات الجنوب الدمشقي، وهي على تماس من الشمال مع مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين الذي سيطر عليه تنظيم الدولة الإسلامية ما بين العامين ٢٠١٥-٢٠١٨، ومن الغرب مع بلدة السيدة زينب الشيعية التي تسيطر عليها ميليشيات شيعية أبرزها حزب الله اللبناني.

خرجت يلدا، وبلدات الجنوب الدمشقي، عن سيطرة النظام منتصف العام ٢٠١٣، وتعرضت لحصار خانق. وسيطر تنظيم الدولة الإسلامية لمرحلة قصيرة في العام ٢٠١٤ على يلدا جرت خلالها أول هدنة بين المعارضة والنظام في آذار ٢٠١٤. المعارضة طردت داعش من يلدا بعد فترة قصيرة، بعدما اتضحت طموحاته التوسعية ورغبته بالقضاء على المعارضة.

في جنوب دمشق تشكلت لجنة مصالحة تحت اسم اللجنة السياسية، نهاية العام ٢٠١٦، من مدنيين وعسكريين، وضمت الشيوخ صالح الخطيب عن يلدا، وأنس الطويل عن ببيلا، وأبو عبدو الهندي عن بيت سحم، وكذلك ممثلين عن أبرز الفصائل العسكرية المعارضة (جيش الأبابيل، فرقة دمشق، شام الرسول، جيش الإسلام). ويعتبر هؤلاء الشيوخ من أبرز مشايخ الصوفية جنوبي دمشق في المرحلة التي أعقبت العام ٢٠١١، في حين أن ممثلي معظم الفصائل المسلحة كانوا من المحسوبين على التيار السلفي. في تشرين ثاني ٢٠١٦ انعقد أول لقاء بين اللجنة السياسية وبين ضباط من فرع الدوريات، المسؤول عن المصالحات جنوبي دمشق والتابع لجهاز الأمن العسكري، بغرض بحث التهدئة والتركيز على مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية.

مع الوقت ظهر نزاع ضمن اللجنة السياسية بين تيار يدعو للمصالحة مع النظام مباشرة، وتيار يدعو لاستمرار القتال، أو القبول بضمانة روسية لاتفاق مع النظام في أسوأ الأحوال. وتزعم التيار الأول شيوخ الصوفية، فيما اصطف في التيار الثاني قادة الفصائل العسكرية المعارضة. في تشرين ثاني ٢٠١٧، خرج الصراع بين التيارين للعلن، مع دعم فصائل المعارضة المسلحة في يلدا توكيل الشيخ أبو ربيع البقاعي، بدلاً من الشيخ صالح الخطيب في اللجنة السياسية، بعد مواقف الشيخ الخطيب الموالية للنظام. وترافق ذلك مع تنفيذ المعارضة، في كانون ثاني ٢٠١٨، عملية أمنية ضد جماعة الشيخ أنس الطويل في ببيلا والخلية المسلحة التابعة لها. وفي هذه المرحلة، تفككت اللجنة السياسية وبات كل طرف منها يفاوض منفرداً؛ تحت اسم لجنة مصالحة لكل بلدة على حدا يقودها الشيوخ، ولجنة عسكرية تفاوض عن المعارضة المسلحة.

ورفض المشايخ طرحاً روسياً بالمصالحة، في آذار ٢٠١٨، يقضي بخروج المعارضة المسلحة من المنطقة، وتأجيل الخروج إلى ما بعد حسم ملف داعش في مخيم اليرموك. فظهر الانقسام أيضاً في صفوف المعارضة العسكرية، إذ وافق جيش الأبابيل وحركة أحرار الشام الإسلامية وفرقة دمشق، وكلها سلفية، على الخروج من المنطقة، فيما انقسم فصيل شام الرسول ذي المرجعية الصوفية بين مؤيد ومعارض للخروج، في حين أصر جيش الإسلام على البقاء والقتال.

مع انطلاق العملية العسكرية النهائية ضد داعش في مخيم اليرموك في نيسان ٢٠١٨، طرح النظام عرضاً يتضمن قتال المعارضة إلى جانبه في المعركة ضد داعش، فرفضته الفصائل. وفي ٢٩ نيسان، عُقِدَ اتفاق نهائي بين فصائل المعارضة المسلحة وبين النظام، برعاية روسية، يقضي بدخول الشرطة العسكرية الروسية إلى البلدات الثلاث، وتنفيذ مصالحة شاملة فيها، وخروج من يرفض المصالحة من عناصر المعارضة والمدنيين إلى الشمال السوري.

فعلياً، تم تهجير قرابة ٩٥٠٠ شخص من كامل الجنوب دمشق إلى الشمال السوري، بينهم أكثرية من مقاتلي الفصائل المسلحة اللذين شكّل أبناء الجولان وفلسطينيو مخيم اليرموك، كتلة كبيرة منهم. ومن أصل ٢٥ ألفاً من سكان يلدا المتبقين فيها، خرج منها ٤٢٢ شخصاً فقط. ولم يخرج مثلاً من لواء شام الرسول سوى عدد قليل جداً من المقاتلين والقياديين. ويعود انخفاض عدد المهجرين من أبناء بلدات الجنوب الدمشقي الأصليين، إلى دعوة شيوخ الدين للشبان للبقاء، مع وعود لهم بتحصيل امتيازات إضافية على الاتفاق.

ومع تطبيق الاتفاق انتشرت قوات روسية على نقاط التماس مع بلدة السيدة زينب ومحيطها، في حين دخلت قوات النظام واستلمت الجبهات مع داعش. ومنذ تلك اللحظة، بدأ شيوخ المصالحة العمل على إبعاد الجانب الروسي عن المنطقة، ومحاولة إدخال الجانب الإيراني بدلاً عنها. ويعود ذلك بشكل رئيسي إلى عدم استساغة فرع الأمن العسكري للانتشار الروسي في منطقة ملاصقة لدمشق تقع ضمن مجال نفوذه. حتى أن الشيخ أنس الطويل، الذي عاد بعد شهور من نفيه إلى دمشق، دخل المنطقة برفقة شيخ شيعي من السيدة زينب وألقى خطبة في جموع المدنيين حول وحدة الدم الشيعي-السني وضرورة نبذ الخلاف الحاصل على مدى السنوات السابقة. وسعى تيار المصالحة إلى تشكيل خلايا مُسلحة تحل محل الشرطة العسكرية الروسية، بدعم من فرع الدوريات. وتم تعيين أبو النور الخطيب، أخ الشيخ صالح الخطيب، لتأسيس وقيادة ميليشيا محلية من أبناء يلدا المتطوعين في اللجان الشعبية.

وبعد أقل من شهرين على المصالحة، انسحبت الشرطة الروسية من نقاط التماس، واقصرت مهامها على تنفيذ دوريات يومية في البلدات الثلاث، قبل أن تخفّض تواجدها في تشرين الأول ٢٠١٨، إلى قرابة ١٠٠ عنصر فقط. وباتت يلدا، وجنوبي دمشق، تخضع لسيطرة متداخلة من أكثر من فرع من جهاز الأمن العسكري؛ فرع فلسطين، وفرع المنطقة، وفرع الدوريات. في حين أن الفرقة الرابعة أصبحت القوة العسكرية المسيطرة على كامل الجنوب الدمشقي، وبدأت تطويع الشباب المطلوبين للخدمة العسكرية في صفوفها.

بدأت الحاضنة الشعبية في هذه المرحلة بالتفارق مع خطاب شيوخ المصالحة، إذ لم يرغب الأهالي بخروج الروس من المنطقة، ولا بعودة العلاقات مع بلدة السيدة زينب. وزاد من الشرخ مع شيوخ المصالحة، إطلاق النظام لحملات اعتقال عشوائية، منذ حزيران ٢٠١٨، بحق المعارضين السابقين من حاملي بطاقات التسوية. وبدأ المشايخ يشعرون بتململ حاضنتهم الشعبية، وتجاهل النظام لهم. في كانون الأول ٢٠١٨، شنّ الأمن العسكري موجة واسعة من الاعتقالات بحق المنشقين والمتخلّفين عن الخدمة العسكرية، وتعرّض المقاتلون السابقون منهم في فصائل المعارضة للتعذيب، بالإضافة إلى صدور قوائم بآلاف المطلوبين للخدمة العسكرية.

في نيسان ٢٠١٩ اتضحت توجهات النظام للانقلاب على رموز المصالحة، مع حملة اعتقالات طالت عاملين في المجال الإغاثي، وشملت بعض أنصار المصالحة. وفي تموز ٢٠١٩، نفذ الأمن العسكري عمليات دهم اعتقل خلالها عدداً من أعضاء لجان المصالحات في البلدات الثلاث، ومنهم غالب وزياد البقاعي في يلدا. وبعد إخلاء سراح الأخوين البقاعي، مُنعَ جميع أعضاء لجان المصالحة من مغادرة بلدات جنوب دمشق التي أعيد فرض طوق أمني مشدد عليها. وتواصلت الاعتقالات منذ ذلك الوقت، ولم تتوقف لحد أيلول ٢٠٢٠ وسط عجز لجان المصالحة وشيوخ الصوفية عن التدخل لوقفها.  وبعد تعيين رئيس جديد لفرع الدوريات، في تشرين الثاني ٢٠١٩، زاره وفد من المشايخ وأعضاء المصالحة في الجنوب الدمشقي، فتوجه لهم بالقول: “المصالحة تمت.. وليس من عمل لكم بعد اليوم”.

الشيخ صالح الخطيب ما زال قادراً على التحرك من دون قيود نسبياً، إلا أنه فقد نفوذه السابق، وعاد إلى حياته اليومية كشيخ جامع. الأمر ذاته ينطبق على الشيخ أنس الطويل. الشيخ أبو ربيع البقاعي، عضو اللجنة السياسية عن يلدا، أعفي من الخدمة العسكرية الالزامية، لكنه حاليا بلا نفوذ. في حين اضطر الشيخ أبو عبدو الهندي من بيت سحم، للهرب من سوريا بعد التضييق الواسع عليه وعلى أولاده. وتعود خسارة النفوذ والتهميش لدور هؤلاء المشايخ، إلى عوامل متداخلة، أكثر مما هي استراتيجية متماسكة اتبعها النظام. إذ أن شرائح أهلية واسعة اعتبرت بأن المشايخ فشلوا في حماية مجتمعاتهم المحلية من اليد الأمنية الثقيلة للنظام في ظل استمرار الاعتقالات التي طالت بعض أعضاء لجان المصالحة. أيضاً، لم تنجح الاستدارة التي نفذها المشايخ من المعارضة إلى الموالاة بكسب ودّ النظام. كما أن محاولتهم إدخال الجانب الإيراني وتحييد الدور الروسي جاءت على الضد من رغبة الأهالي.

على مستوى مؤسسات الدولة الرسمية، عاد رئيس البلدية السابق محمد عبد الرحمن حامد، ليتسلم رئاستها مجدداً، في العام ٢٠١٨. حامد، لم يخرج من البلدة أثناء سيطرة المعارضة وظل محافظاً على علاقاته الجيدة مع الأجهزة الأمنية والحزبية. كما أعيد تعيين أمين فرقة حزب البعث السابق إبراهيم العاشق، الذي خرج إلى دمشق في فترة المعارضة وعمل من الخارج في لجنة مصالحة يلدا. في حين أن أخوه يوسف قام بتسوية وضعه، بعدما كان قيادياً في المعارضة المسلحة. وتعاون الشقيقان في تنظيم لوائح بأسماء مقاتلي المعارضة الراغبين بالمصالحة والتطوع في صفوف قوات النظام قبل عملية التهجير.

على مستوى الميليشيات على الأرض، وبالإضافة إلى اللجان الشعبية التابعة للدفاع الوطني التي أسسها الشيخ أبو النور الخطيب، أسس القائد الميداني السابق المعارضة المسلحة مصطفى القصير، ميليشيا تابعة للفرقة الرابعة. ومع ذلك، اعتقل القصير لفترة وجيزة من قبل فرع فلسطين، في تموز ٢٠١٩. عضو لجنة المصالحة أبو حسن رشيد، وهو خال مصطفى القصير، أسس بدوره فرعاً لميليشيا الزوبعة التابعة للحزب السوري القومي الاجتماعي، قبل أن يغلقه الروس مطلع العام ٢٠٢٠. وبفضل علاقة أبو حسن رشيد وأخوه أبو النور، الجيدة بالفرقة الرابعة، فهما الوحيدان اللذان يجرؤان حالياً على متابعة أوضاع معتقلي يلدا بعد المصالحة، مقابل المال. وبفضل تلك العلاقات يشرف الأخوان رشيد على معظم الأعمال التجارية في يلدا، فيما يشبه الاحتكار، لإدخال المواد الغذائية عن طريقهما.

في بلدات الجنوب الدمشقي ظهر بشكل واضح التنازع الإيراني-الروسي، والذي حاولت لجان المصالحة اللعب عليه لكسب أفضل الشروط للمنطقة. ولكن ذلك لم ينفع، إذ سرعان ما فقد الروس اهتمامهم بالمنطقة، لتصبح بالكامل تحت هيمنة الأجهزة الأمنية والعسكرية للنظام المقربة من إيران. ولذلك، تم تهميش رجال المصالحة ووجهاء البلدات الثلاث، وكذلك شيوخ الصوفية، بعدما أدوا دوراً رئيسياً في انجاز المصالحة، وتطويع الشباب في أجهزة الأمن والفرق العسكرية للنظام.

الجزء الرابعدور الشبكات الأهلية في استمرار الفاعلين المحليين
رغم التشابه في حجم التهجير الجزئي، وضعف العامل الخارجي، فإن وضع التل ومعضمية الشام يختلف عن يلدا وقدسيا بأنه ما زال للفاعلين المحليين فيهما دور في تمثيل مجتمعاتهم المحلية وقيادتها. وما يجمع بين التل ومعضمية الشام هو المرونة التي أظهرتها الشبكات الاجتماعية للفاعلين فيهما في التأقلم مع مرحلة ما بعد المصالحة. إذ برز في المدينتين دور الشبكات الاجتماعية والعائلية خلال الثورة، وحافظ على استمراريته اثناء مفاوضات المصالحة وما بعدها. الصلات الأهلية القوية، ساهمت بمنع حدوث تهجير واسع النطاق. ويمكن هنا التمييز بين استمرار الشبكات الأهلية التي غلب عليها الطابع المدني في حالة التل، وتلك التي غلب عليها الطابع المليشياوي كما في معضمية الشام. وفي الحالتين، استندت الشبكات الأهلية إلى الروابط العائلية، لا الدينية.

يبرز في حالتي التل ومعضمية الشام أيضاً النمط السياسي السائد ما قبل العام ٢٠١١، كعامل مساند عزز من فاعلية الروابط الأهلية-العائلية. ويبدو أنه لعب دوراً في ابقاء السياسة متاحة بالحدود الدنيا في هاتين المدينتين رغم انقلاب ميزان القوى بالكامل لصالح النظام. إذ يغلب على المدينتين الطابع المحافظ اجتماعياً، والمتنازع سياسياً بين الناصري والإخواني، والشيوعي إلى حد ما. وبالتالي فالقدرة على التنظيم والحشد، موجودة تاريخياً لدى الأهالي، ولم يتمكن النظام من اجتثاثها كلياً رغم عقود طويلة من هيمنة حزب البعث.

التل: المعارضة الحيادية
مدينة التل في القلمون، هي مركز منطقة التل أيضاً. ولطالما مثّلت المدينة الريف القلموني الميسور مادياً، غير المرتبط بالتوظيف في مؤسسات الدولة السورية، بسبب اعتماده على الهجرة والاغتراب. والمدينة محافظة اجتماعياً، ناصرية-إخوانية سياسياً. وكان عدد سكانها قبل ٢٠١١ بحدود ١٥٠ ألف نسمة. 

بعد خروج التل عن سيطرة قوات النظام، في آب ٢٠١٢، والاشتباكات العنيفة التي أعقبتها، نزح عن المدينة عشرات آلاف الأشخاص، بينهم أبرز الوجهاء والفاعلين المحليين. وترك ذلك فراغاً سرعان ما اضطرت لملئه مجموعة من الناشطين على رأسهم أبو حسام جاموس، بالتنسيق مع جمعية إنعاش الفقير الخيرية، لتغطية احتياجات الناس المتبقين. وأجرت المجموعة مفاوضات مع قوات النظام، نجحت بإعادة الناس إلى المدينة بعد شهور، وتقديم خدمات لهم. وهكذا تشكلت لجنة المصالحة في التل باسم لجنة التواصل بين النظام والمعارضة، وضمّت بين أعضائها أشخاصاً مقبولين اجتماعياً من المحسوبين على النظام. ومع تشديد القبضة الأمنية على التل، مطلع ٢٠١٣، عادت المعارضة العسكرية للظهور وسيطرت على المدينة في العام ٢٠١٤. ودفع ذلك بالنظام إلى إعطاء لجنة التواصل صلاحيات أوسع من خلال القبول بوساطتها وتحقيق بعض الطلبات لأهالي المدينة. وفي الوقت ذاته، بدأت المعارضة بالوثوق باللجنة، وأعطتها من جهتها صلاحيات أكثر، دارت حول تسليمها التفاوض بخصوص الأسرى والجثث وفك الحصار.

وأنتج ذلك هدوءً نسبياً في المدينة، ما حوّلها إلى قبلة للنازحين من المناطق المشتعلة حولها، مستقبلة ثلثي نازحي الغوطة والقلمون، حتى قُدّر عدد سكان التل بقرابة المليون نسمة. ولأن أهل التل من الميسورين ويغلب الكرم على طبعهم، تكفلوا بإطعام النازحين وإيوائهم، ما أزاح عن النظام عبء انتقال النازحين إلى دمشق. هذه المعادلة المعقدة، ساهمت بتحييد المدينة عن العمليات العسكرية، بعدما أدرك النظام أنها ستكون مكلفة له. ومع ذلك الضغط السكاني الهائل، ازدادت أعباء لجنة التواصل، وسط نقص الخدمات وضعف الإمكانيات. وساهم ذلك في ولادة مجلس العائلات نهاية العام ٢٠١٥، كهيئة تمثيلية مدنية، بدعم من لجنة التواصل ووجهاء المدينة. وتشكلت هيئة عامة من مئات الأعضاء من ممثلي العائلات، انتخبت ٣٠ ممثلاً كأعضاء في مجلس العائلات، في حين تم التوافق على اسم رئيس المجلس. وتم وضع مجلس العائلات، ولجنة التواصل، تحت سلطة مجلس مدينة التل.

مع نهاية العام ٢٠١٦ تصاعد الحل الأمني، وتراجع دور مجلس العائلات لصالح لجنة التواصل التي تفاوضت مع النظام على اتفاق مصالحة أقرّ في تشرين الثاني ٢٠١٦، دخلت بموجبه قوات النظام إلى المدينة. ونتج عن تطبيق الاتفاق تهجير ٥٠٠ عنصر من المعارضة المسلحة، و١٥٠٠ من رافضي التسوية. وكان الطرف المفاوض من جهة النظام، كما هو الحال في قدسيا، ممثلين عن الحرس الجمهوري والأمن السياسي. وهما الجهتان اللتان ستسيطران على التل في مرحلة ما بعد المصالحة، لكن بالعكس، أي سيسيطر الأمن السياسي بشكل شبه مطلق على المدينة، فيما سيدعمه الحرس الجمهوري عسكرياً.

وكما في غير مناطق، تم تركيب هياكل الدولة من الأعلى. في الانتخابات البلدية في أيلول ٢٠١٨، وصل رجل الأعمال سليم الحبشي، إلى عضوية مجلس مدينة التل، وهو ابن عضو مجلس شعب سابق. في حين أعيد رئيس بلدية التل خلال فترة سيطرة المعارضة جهاد سلعس، ليشغل موقعاً أساسياً في مجلس المدينة التنفيذي الجديد. وسلعس معروف بموقفه العدائي من مجلس العائلات، وكان وراء حلّه نهاية العام ٢٠١٦. وتم تعيين باسل الصمل، المقبول من النظام وغير المحبوب من الأهالي، رئيساً لمجلس المدينة.

ولكن، سرعان ما واجه مجلس مدينة التل أزمة بعدم قدرته على التواصل مع الأهالي، في ظل نقص خطير بماء الشرب وتلوثها. وفي محاولة لرأب الصدع بين مجلس البلدية ومجلس العائلات المحلول، تم تشكيل لجنة التنمية المحلية، منتصف العام ٢٠١٨، على أن تتبع لمجلس المدينة، وتضمّ أعضاءً من لجنة المصالحة ومن مجلس العائلات. وأول إنجازات لجنة التنمية المحلية كانت استعادة العلاقة مع صندوق التل والعائلات التلية المغتربة في الخليج، مستغلة رمزية اعضائها وثقة الأهالي بهم، لجمع الأموال اللازمة لحفر الآبار، وحل مشكلة العطش في المدينة.

ولم يتوقف حلّ وإعادة تركيب البنى التنظيمية التي أقيمت في فترة سيطرة المعارضة في التل على مجلس العائلات، بل تم حلّ لجنة التواصل في نهاية العام ٢٠١٩، إلا أن بعض أعضاءها ما زالوا قادرين على التفاوض مع النظام في المسائل العمومية، خاصة أبو حسام جاموس. كما أن الأمانة السورية للتنمية برئاسة أسماء الأسد، زوجة الرئيس السوري، عملت على إضعاف جمعية إنعاش الفقير، فتدخلت وزارة الشؤون الاجتماعية لتغيير مجلس إدارتها.

الحالة التنظيمية الأهلية النموذجية في التل، لم تتواكب مع استقرار أمني. عقب خروج المعارضة تأسست لجنة حماية التل، وهي ميليشيا مدنية من دون سلاح. وبعد ٦ شهور، قرر الحرس الجمهوري حل اللجنة، وضمها إليه بشكل مباشر. لكن الحرس الجمهوري، عاد وأسس في تشرين أول ٢٠١٧ مليشيا جديدة مسلحة تابعة له، من أعضاء لجنة حماية التل المحلولة، بقيادة عضو من لجنة المصالحة. أيضاً، فإن ميليشيا درع القلمون التابعة للفرقة الثالثة دبابات، بقيادة أبو زيدون شمو من أبناء التل، ضمّت من رُفِضَت تسوية أوضاعهم من مقاتلي المعارضة السابقين، وفرضت نفوذها على التل ومحيطها، ما أكسبها أعداءً كثر. أبو زيدون شمو، حوّل درع القلمون إلى مظلة قدمت الحماية للمطلوبين للأجهزة الأمنية من المرفوضة تسوياتهم، لكن الميليشيا مارست سلوك العصابات بالتعديات على الأملاك والناس. وفي مطلع نيسان ٢٠١٨، أبلغ الجانب الروسي الذي سيطر على الفرقة الثالثة، قيادة درع القلمون بضرورة حلّها، ومنذ شباط ٢٠٢٠، بات أبو زيدون طريداً ملاحقاُ من الأجهزة الأمنية. وعلى عكس أبو زيدون، ما زال لبعض الميليشيات الأخرى المرتبطة أمنياً بالحرس الثوري الإيراني دوراً في إشاعة الفوضى في المدينة.

كخلاصة، يتضح أنه في ظل استمرار الاعتقالات وتراجع الوضع الأمني، فأن الانتقال من حالة مجلس العائلات إلى لجنة التنمية المحلية، كان خفضاً لقوة تمثيل الأهالي، وتحجيماً لحالتهم التنظيمية. إلا أن الوضع في التل، ظل مقبولاً نسبياً بالنسبة لمنطقة كانت تحت سيطرة المعارضة، ويعود ذلك بشكل رئيسي إلى قوة الروابط العائلية الأهلية، القادرة على احتواء عسف النظام، ومحاولة مجاراته بالحد الأدنى من الخسائر، وهو ليس بقليل. 

معضمية الشام: الشراكة مع الفرقة الرابعة
تتبع بلدة معضمية الشام إدارياً منطقة داريا غربي العاصمة، وتحاذي حي المزة الدمشقي. وكانت مشهورة بزراعة الزيتون، والزراعات الموسمية، إلا أنها فقدت طابعها الزراعي، منذ الخمسينيات مع استملاك الدولة لمعظم أراضيها لصالح وزارة الدفاع. المصادرة تصاعدت منذ منتصف السبعينيات، بغرض إقامة حزام أمني-عسكري غربي دمشق. وكان يسكن معضمية الشام حوالي ٧٠ ألفاً قبل العام ٢٠١١، منهم ١٠ آلاف من مناطق سورية مختلفة قصدوها بسبب قربها من العاصمة دمشق. سكان معضمية الشام الأصليين يمثلون مجتمعاً عائلياً محافظاً يغلب عليه المزاج السياسي الناصري. وضمن المدينة حي شرقي سكنته غالبية علوية من عائلات الضباط العاملين في مطار المزة العسكري والمخابرات الجوية. ونشأت بين بعض أولئك الضباط وبين الأهالي علاقات اجتماعية، لعبت دوراً مهماً لاحقاً في مرحلة الحصار على المدينة ومرحلة ما بعد المصالحة.

سيطرت المعارضة على أجزاء كبيرة من معضمية الشام نهاية العام ٢٠١٢، وشكلت مع مدينة داريا المجاورة منطقة واحدة ظلت عصية على النظام، حتى تمكن من فصلهما نهاية العام ٢٠١٥. وخلال فترة سيطرة المعارضة تشكل في معضمية الشام مجلس محلي نشيط من فاعلين اجتماعيين لديهم امتدادات عائلية كبيرة في المدينة وعلاقات مع المعارضة الخارجية مكنتهم من تمويل المجلس وفصائل المعارضة في المدينة. وتألف المكتب التنفيذي للمجلس من ٤ أشخاص، سيظل تأثير أغلبهم حاضراً في مرحلة ما بعد المصالحة، وأبرزهم طبيب الأسنان علي خليفة، عضو حزب الشعب المعارض، والذي أسس وموّل فصيلاً معارضاَ مسلحاً. وكذلك، أبو جمال محمود الخطيب مختار معضمية الشام وابن أكبر عائلاتها.

الحصار الخانق الذي ضربته الفرقة الرابعة على المدينة تسبب في نهاية العام ٢٠١٣ بحدوث مجاعة. وللسماح بإدخال الطعام، جرت مفاوضات غير مباشرة بين النظام والمعارضة، توسط فيها محمد خليفة ابن علي خليفة، عبر علاقاته الشخصية مع ضباط من الفرقة الرابعة. وتزامن ذلك أيضاً مع تواصل تجار المدينة المقيمين فيها، ومن المقيمين بدمشق، مع المعارضة لقبول مقترح بالهدنة. الدور الرئيسي في تيسير المفاوضات لفك الحصار، لعبه رجلا الأعمال؛ سمير غندور ونعيم رجب، مستخدمين معارفهم الشخصية في المخابرات الجوية والفرقة الرابعة، التي تولى التفاوض عنها المدير السابق للمكتب الأمني في الفرقة الرابعة العميد غسان بلال، وحسن عيسى الذي سيصبح في العام ٢٠١٩ رئيساً للمهام الخاصة في المخابرات الجوية. وبذلك تشكلت لجنة المصالحة في معضمية الشام نهاية العام ٢٠١٣، وضمت معظم المفاوضين عن أبناء البلدة.

وفي تموز ٢٠١٥ تمكنت قوات النظام من عزل معضمية الشام عن داريا، وتلى ذلك تهجير سكان داريا كلياً منتصف العام ٢٠١٦ بعد حملة عسكرية عنيفة. وفي معضمية الشام جرت المصالحة في أيلول ٢٠١٦، بعقد اتفاق برعاية روسية، نتج عنه تهجير ٥٠٠ ناشط ومقاتل من رافضي المصالحة مع عائلاتهم.

وبمجرد استتباب الوضع الأمني في البلدة، أعيد تعيين مجموعة من الموظفين الموالين للنظام في مجلس البلدية. فعاد رئيس البلدية السابق حسن أبو زيد، إلى منصبه، واستمر فيه إلى انتخابات أيلول ٢٠١٨ التي نتج عنها تعيين بسام سعدى رئيساً جديداً للبلدية. كما أعيد تعيين بسام كربوج، رئيس بلدية معضمية الشام الأسبق، كعضو في مجلس البلدية الحالي. كما تم تعيين محمود برغشة، عضو لجنة المصالحة وقائد فصيل مسلح معارض سابق في مجلس البلدية.

اتفاق المصالحة كان قد نصّ على تشكيل كتيبة بمثابة شرطة داخلية، بقيادة مشتركة من أهالي المدينة وقوات النظام، بحيث تكون مسؤولة عن تأمين النقاط العسكرية للنظام المنتشرة على أطراف المدينة، وتسيير دوريات داخل المدينة، لضبط الأمن وتوقيف المطلوبين لقوات النظام. ولكن، بدلاً من قوة الشرطة، تأسست ميليشيا محلية بإشراف الفرقة الرابعة، وحملت اسم درع العاصمة، وضمت في صفوفها كثيراً من أبناء البلدة الذين تم استقطابهم بحكم الروابط الأهلية والقرابة. منذ نهاية العام ٢٠١٦، تزعم الميليشيا خالد خضر، القيادي السابق في لواء الفتح المبين المعارض. وظل خضر قائداً للمليشيا حتى نهاية ٢٠١٩، عندما أصدر مكتب أمن الفرقة الرابعة قراراً بتعيين منسق المصالحة حسن الغندور، قائداً جديداً لها.

العلاقات والمعارف الشخصية مع ضباط الفرقة الرابعة، لعبت دوراً كبيراً في تعيين معارضين سابقين كقادة ميليشيات محلية استقطبوا أبناء البلدة للتطوع فيها، وتولوا مسؤولية حفظ الأمن فيها. حالة سمير الغندور خير دليل على ذلك. كما أن علاقة علي خليفة، مع الفرقة الرابعة أمنّت له حماية ساعدته على الاستمرار في نشاطه الاجتماعي ومناقشة قضايا المعتقلين. أيضاً، تمتع منسق المصالحة في معضمية الشام محمد رجب، ووالده نعيم، بعلاقة متينة مع مدير المكتب الأمني السابق في الفرقة الرابعة غسان بلال، وتوسع نفوذهما بعد تهجير المعارضة إلى الشمال. وتوطد دورهما من خلال علاقتهما المقربة مع ضباط من مركز المصالحة الروسي في قاعدة حميميم الجوية. ويعمل محمد رجب حالياً في مجال التعهدات لترميم المباني الرسمية بالشراكة مع عضو لجنة المصالحة أبو جمال محمود، مختار معضمية الشام السابق.

ويُعتقد أن هذا التواطؤ بين الفرقة الرابعة وأهل البلدة، قد تسبب بنوع من الغضب الرسمي على الفرقة الرابعة، ما تسبب بإبعادها عن ملف معضمية الشام في حادثة نادرة نسبياً. في حزيران ٢٠١٩، أبلغ رئيس مكتب الأمن الوطني اللواء علي مملوك، وفداً من ممثلي معضمية الشام، بحضور العقيد ياسر سلهب المسؤول الأمني عن المدينة من الفرقة الرابعة، بتحويل ملفها الأمني إلى الأمن العسكري، مع الإبقاء على العقيد سلهب بصفة ضابط ارتباط في المدينة.

ساهمت هزيمة المعارضة والخوف من المجهول المقبل في إعطاء وزن إضافي للروابط الاجتماعية القائمة على القرابة والمعرفة الشخصية، ما لعب دوراً كبيراً في إعادة تشكيل الفضاء الأهلي في معضمية الشام ما بعد المصالحة. فجاء قرار بعض قادة فصائل المعارضة في معضمية الشام، من الذين بقوا بعد المصالحة، بنقل البندقية من كتف المعارضة إلى النظام، مشجعاً لمعظم عناصر فصائلهم باتخاذ القرار نفسه. وهكذا، تشكلت مليشيات موالية للنظام، كما هو الحال في لواء الفجر المعارض الذي بات عناصره أعضاءً في درع العاصمة، بتأثير من القائد الفعلي السابق للواء علي خليفة. عائلة الخطيب، على سبيل المثال، أكبر عائلات معضمية الشام، تبعت قرار المختار أبو جمال وتطوع أبنائها في المليشيات المحلية الموالية. كما أن المعرفة الشخصية مع ضباط الفرقة الرابعة، ساعدتا بإبقاء شبكات الفاعلين المحليين قائمة في مرحلة ما بعد المصالحة. إذ ساعدت المعرفة الشخصية بالضباط في استمرار وجود الفاعلين، بشرط توظيف شبكاتهم الاجتماعية العائلية لتطويع الشباب في مليشيات محلية موالية للنظام.

لكن، وعلى عكس ما جرى في التل التي نجحت لجنة العمل التنموي فيها بإيجاد حل لأزمة ماء الشرب في المدينة، فشلت هذه الشبكات في معضمية الشام من إنتاج ظروف أفضل للأهالي، بل تحولت إلى ذراع أمنية أهلية تستخدم لضبط عشرات الآلاف من السكان في ظل ظروف معيشية صعبة للغاية. لكن هذه الذراع الأمنية الأهلية حمت الناس من الاعتقالات ما بعد مرحلة المصالحة في معضمية الشام، بينما لم يتمكن فاعلو التل من فعل ذلك.

خاتمة
في الوقت الذي كان ينظر فيه لمناطق ريف دمشق ما بعد المصالحة، على أنها كتلة واحدة خضعت لسيطرة النظام العسكرية والأمنية بشروط متماثلة، خلصت هذه الورقة إلى وجود تمايزات بين تلك المناطق. وتعود تلك التمايزات، إلى مجموعة من العوامل التي أثرت على مسار المصالحة والتهجير، بطرق مختلفة. إذ تفارقت مصائر الفاعلين المحليين بعد المصالحات، وتراوحت بين تهجيرهم كلياً، أو الحفاظ على بعضهم مع تهميش تدريجي لدورهم، أو احتوائهم بشكل أو بآخر ضمن بعض المؤسسات التمثيلية والمليشيات العسكرية الموالية للنظام. ولا يقول ذلك، إن المجتمعات المحلية قد تمكنت من إنتاج حالة تمثيلية لفاعليها الاجتماعيين، لكنها تمكنت في بعض الحالات من إبداء مرونة ساهمت بالإبقاء على دور نسبي لهم في مرحلة ما بعد المصالحة. ولم تكن تلك المسارات مقتصرة على إرادة المجتمعات المحلية فقط، بل كانت رهينة لتجاذبات خارجية أحياناً، وعلاقات شخصية مع القوى العسكرية والأمنية للنظام أحياناً أخرى.

في المقابل، أقام النظام مجموعة من الهياكل الإدارية والسياسية، عقب المصالحات بريف دمشق، ليعيد من خلالها انتاج فاعلين اجتماعيين من القيادات البعثية وطبقة الموظفين الحكوميين وشرائح من رجال الأعمال، الذين حافظوا على ولائهم خلال فترة سيطرة المعارضة. كما أعيد تموضع القوى الأمنية والعسكرية الرسمية، وهي الحاكمة الفعلية في مناطق سيطرتها، لتصبح أكثر تنظيماً وعلى تنسيق أعلى فيما بينها. وما يجمع كل هياكل القوى السابقة، هو أنها تركيبات سلطوية محضة، قليلاً ما تعبر عن حالة تمثيلية دقيقة للسكان، وبالتالي قليلاً ما تلحظ الديناميات المحلية.

والآن، وبعد مرور أعوام على المصالحة لا يبدو أن شريحة الفاعلين الاجتماعيين، المركبة من الأعلى مع هياكل الحكم الرسمي، أو تلك الباقية من الأسفل ممثلة بلجان المصالحة، قد نجحت في تأمين الاستقرار والحد الأدنى من الخدمات لمجتمعاتها المحلية. عجز الدولة كمزود خدمات حكومي وحيد، والانهاك الذي لحق بالمجتمعات المحلية جراء الحرب المدمرة، أعاقا انتاج فاعلين محليين قادرين على ايصال صوت مجتمعاتهم المحلية، مع استمرار النظام في توظيف العنف الرمزي والفعلي كوسيلة شبه وحيدة للسيطرة.

المصدر: مسارات الشرق الأوسطMiddle East Directions