بحث
بحث

واقع العودة إلى سوريا و”كابوس” التجنيد الإجباري

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن موضوع “عودة اللاجئين السوريين إلى حضن الوطن”، أمر يروج له النظام السوري وحليفه الروسي. لكن ما حقيقة هذه العودة؟ وهل زالت اليوم الأسباب التي دفعت ملايين السوريين إلى الهرب من بلدهم مجبرين؟ وهل يمكننا الحديث عن عودة اللاجئين والخدمة العسكرية الإلزامية لا تزال هاجسا يلاحق الشباب؟

الحلم والكابوس

لطالما كان دفتر خدمة العلم بمثابة “الحلم والكابوس” بالنسبة لكل شاب سوري، يبلغ سن الثامنة عشر، حين تبدأ دوامة إجراءات الخدمة الإلزامية العسكرية.

“دفتر خدمة العلم محلو بقلبي، هو أهم من صورة حبيبتي”، أينما يذهب، يحرص مجد البالغ من العمر 27 عاما على الاحتفاظ بهذه الوثيقة الرسمية الإجبارية التي تتضمن الحالة العسكرية لكل شاب سوري. يروي مجد الذي رفض تأدية الخدمة العسكرية في بلد تشتعل فيها الجبهات القتالية لمهاجر نيوز، “بدون الدفتر، ما فيك تتحرك حتى داخل المدينة، وأول ما يطلبه عناصر الحواجز الأمنية هو دفتر خدمة العلم”.

حتى العام 2016، “كنت قادرا على تأجيل الخدمة العسكرية بفضل تسجيلي الجامعي، إلى أن استنفدتُ المدة القصوى لتأجيل ملفي، وأصبحتُ مجبَرا على الالتحاق بالجيش. وصارت كل أحلامي تتمثل بالسفر خارج البلد بعد فشل جميع محاولاتي للتخلص من هذا الكابوس. لكن الأمور ازدادت تعقيدا لأني أصبحت متخلفا عن الخدمة العسكرية.. بقيت سجين منزلي في ضواحي دمشق لمدة 4 أشهر لا أتجرأ فيها على الخروج حتى من الشارع الذي أسكن فيه، خوفا من اقتيادي إلى المشاركة في القتال”.

يفرض الدستور السوري على الشباب بين سن 18 و42 عاما، الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية لمدة تتراوح بين عام ونصف إلى عامين نظريا وذلك يعني أنه باستثناء الشاب الوحيد، وهو الذي ليس لديه أشقاء ذكور، فإن جميع الرجال السوريين الذين لا يعانون من مرض عضال أو عجز جسدي ملحوظ، مطالبون بتأدية خدمتي الجيش، النظامية والاحتياطية، لدى استدعائهم إليها. ويُستثنى من يثبت أنه معيل وحيد لأهله].

هاجس التجنيد الإجباري الذي يلاحق الشباب منذ عهد الأسد الأب، بات أكثر خطورة وسوداوية مع بدء مظاهرات عام 2011، إذ بات تسريح المنخرطين في الجيش أكثر صعوبة وأضحت الخدمة العسكرية تطول لسنوات.

 ووجد الكثير من الشباب أنفسهم مجبرين على الانخراط في صفوف القوات المسلحة والمشاركة في المعارك التي راح ضحيتها الآلاف على مر السنوات التسع الماضية.

يعيش اليوم مجد في العاصمة بيروت بعد أن دفع رشوة مالية مقابل الحصول على تأجيل الخدمة، “دفعت 800 دولار لأحد الموظفين مقابل تبديل أسماء، أي أن “الموظف يضع اسمي على ملف شخص آخر حاصل على موافقة التأجيل بشكل نظامي. وبالتالي يقوم الموظف بعرقلة ملف الشخص الذي بدل اسمه باسمي ويطلب منه وثائق إضافية.. لديهم 100 حجة وذريعة لاختلاق أسباب لعدم سير المعاملة”.

استطاع مجد بعد حصوله على التأجيل مقابل الرشوة الحصول على موافقة سفر والخروج من بلده. ويقول “لم أكن أرغب بترك بلدي، لكني لم أجد خيارا آخر وكان لبنان المنفذ الوحيد المتاح”.

رواية مجد تتزامن مع خطاب النظام السوري الذي يتكرر في شتى المناسبات حول وضعه آليات تسهّل عودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم، بعد أن أجبر أكثر من 6 ملايين شخص على النزوح داخليا، ولجأ نحو 7 ملايين سوري إلى خارج بلدهم على مدى السنوات التسع الماضية، وفقا لأرقام الأمم المتحدة.

ويختم الشاب العشريني “أرغب بالعودة إلى بيتي وأهلي لكني لا أريد المشاركة في القتال ولا خوض الحرب، فأنا اليوم محروم من العودة لا أعلم إلى متى”.

“إما الهرب والتشرد أو الالتحاق بجيش النظام”

وفي إحدى ساحات العاصمة البوسنية سراييفو، التقى فريق “مهاجرنيوز بخالد الذي ينام برفقة أخيه في الشارع منذ بضعة أيام وذلك بعد أن هرب من مدينته الساحلية طرطوس، التي حرص النظام السوري على عدم زجها بالاقتتال الدامي.

وخالد الذي لم يتجاوز التاسعة عشرة من عمره لم يمتلك فعلا خيار البقاء بين عائلته وأصدقائه، مؤكدا أن “الهروب من بلدي لم يكن أمرا اختياريا، انظروا إلى وضعي الحالي فأنا أنام في الشارع وأمضيت أسابيع شاقة بين الجبال والأنهر وصولا إلى هذا البلد الفقير ورحلتي لم تنته بعد. فعليّ عبور الحدود مع كرواتيا وبعدها إلى إحدى الدول الأوروبية. كل هذا من أجل ماذا؟ فقط من أجل الوصول إلى ملجأ آمن”.

يقاطعه أخوه اليافع قائلا “إما الهرب والتشرد وإما الالتحاق بالجيش. فرغم الهدوء التي تعيشه محافظة طرطوس ليس لنا الحق في عيش حياة طبيعية، فنحن لا نريد رفع السلاح”.

يوضح الشابان أنهما كانا يعيشان ضمن ظروف مادية صعبة ولم يكن بوسعهما إكمال تعليمهما الجامعي لاضطرارهما إلى العمل وجني بعض المال لإعالة باقي أفراد الأسرة، “ليست لدينا الإمكانيات التي تتيح لنا دخول الجامعة”.

ويعمد الكثير من الشباب إلى التسجيل الجامعي لتأجيل الخدمة الإلزامية.

بناء على أحكام المرسوم التشريعي رقم /12/ لعام 2019، “تؤجل الخدمة الإلزامية للمكلفين لمدة سنة قابلة للتجديد” وفقا لمعايير معينة، مثلا شرط ألا يتجاوز عمر الشاب 26 عاما لطالب الكليات الجامعية التي تكون مدة الدراسة فيها أربع سنوات. ويلغى التأجيل عند إنهاء الدراسة أو إذا تغيّب أو انقطع عن دراسته دون عذر. كما يجوز في زمن الحرب إلغاء التأجيل الدراسي لجميع المكلفين بقرار من القائد العام].

رشاوى باهظة رغم استيفاء الشروط المطلوبة

في ظل الوضع الراهن في سوريا، استيفاء الشروط المطلوبة لتأجيل الخدمة وفقا للقانون، لا يكفل سير المعاملة دون دفع رشاوي باهظة.

ويستنكر الشاب كامل عدم قدرته على إكمال معاملة التأجيل رغم تحقيقه للشروط، ويقول لـ “مهاجرنيوز”: “أعمل منذ أكثر من أربعة أشهر على تسيير معاملة تأجيل الخدمة العسكرية، على اعتبار أني مقيم بشكل شرعي في لبنان. وبعد أن قمت بتقديم جميع الوثائق المطلوبة من سند إقامة وهوية شخصية وغيرها من الأوراق الثبوتية، طلبت مني إحدى الموظفات في شعبة التجنيد دفع مبلغ يعادل 1200 دولار فقط من أجل ‘التعجيل بالطلب’. علما أن جميع الأوراق التي قدمتها نظامية. رفضت دفع هذا المبلغ ولا أزال حتى اليوم بانتظار تسيير المعاملة”.

أما بالنسبة لسعيد الذي تولى معاملة تأجيل الخدمة لأخيه المقيم في ألمانيا، يؤكد الشاب أن “الموظف الحكومي يحاول بشتى الوسائل أن يعرقل الملف، عبر طلب وثائق إضافية أو حتى أوراق لا داعي لها”.

ويروي ما حصل معه في عام 2017، “كنت أتولى معاملة التأجيل لأخي المقيم في ألمانيا. كنت قد سلّمت جميع الأوراق المطلوبة في شهر نيسان/أبريل واستغرق مني الأمر أكثر من ثمانية أشهر لإنهاء المعاملة. كل ذلك التأخير لأني لم أدفع رشوة كما يلزم، فالـ 150 دولار التي أخذها الموظف مقابل لا شيء طبعا، لم تعجبه. وهنا برزت لدى الموظف قدرة خارقة على إيجاد طريقة لعرقلة الملف، مثلا، كانت إحدى الأوراق التي طلبها مني الموظف هي إحضار ضبط من مخفر الشرطة يثبت بأن أخي خارج القطر، رغم أنه في الملف توجد وثيقة رسمية تثبت الخروج من البلد، فاضطررت للذهاب إلى مخفر الشرطة برفقة شاهدين للتأكيد على أن أخي خارج القطر”.

وفهي نهاية شهر أيار/مايو من كل عام، تبدأ حملات تعميم أسماء المتخلفين عن التجنيد على أجهزة الشرطة، ويتم اقتياد من يلقى القبض عليه إلى مركز التجمع المعتمد في المدينة، ليتم فرزهم فيما بعد إلى النقاط العسكرية.

العميد السابق أحمد رحال المقيم حاليا في تركيا يؤكد لـ “مهاجرنيوز أن “الفساد ليس جديدا على المنظومة الأمنية في سوريا، وحتى قبل اندلاع الثورة في 2011، كان الشاب يدفع الرشاوي مقابل الحصول على ما يسمى بالخدمات الثابتة عبر اختلاق ذريعة صحية له. ولهذا السبب، مثلا، كان يتم تغيير اللجان الطبية المسؤولة عن تقييم الوضع الصحي باستمرار”.

الحجز على أموال المتخلّفين

الشاب خليل المقيم في السويد اضطُّرَّ لدفع مبالغ مالية تتجاوز الألفي دولار لموظفين في شعبة التجنيد وإدارة الهجرة والجوازات مقابل تسيير معاملة دفع البدل، التي أكد أنها قانونية وتستوفي الشروط المطلوبة.

“أنا أعيش خارج سوريا منذ حوالي 15 عاما، ولم أكن أنوي دفع البدل. كل ما في الأمر، أن عقار منزل العائلة مسجل باسم والدي الذي توفي مؤخرا، واضطررت من أجل تسيير معاملة حصر الإرث إلى دفع مبالغ طائلة لما يطلقون عليه تسوية الوضع”.

بناء على التعديلات الصادرة عام 2017 على أحكام المرسوم التشريعي لعام 2007 المتضمن قانون خدمة العلم، يعفى المكلفون من تأدية الخدمة الإلزامية لقاءَ دفع ثمانية آلاف دولار أمريكي للمكلف الذي أقام إقامة دائمة في دول عربية أو أجنبية لمدة لا تقل عن أربع سنوات، وعلى كل سنة تأخر غرامة 200 دولار، وحجز على الأموال.

ووفقا لهذا المرسوم، يتم الحجز على أموال جميع المتخلفين عن تأدية الخدمة العسكرية، أموال تساهم في سد حاجة خزينة الدولة بالعملة الصعبة، أو من أجل الحجز على أموال اللاجئين خاصة، إذ إن هؤلاء غير قادرين على دفع البدل أو التأجيل بشكل نظامي.

التخفي عن أعين الأمن

في الداخل السوري، تتقاطع الكثير من قصص الشباب حول رفض تسريحهم من الخدمة العسكرية رغم انتهاء المدة الإلزامية التي من المفترض ألا تتجاوز عامين كحد أقصى.

وبعد أن أنهى سامر الخدمة الإلزامية في عام 2013، لا يزال بعد سبع سنوات في الخدمة العسكرية، وبعد “برطلة” العديد من الضباط وتعرضه لإصابة، تم تعيينه كسائق لأحد الضباط، وفقا لشهادة عائلة هذا الشاب.

أما سعد الذي مر أكثر من خمس سنوات على إكماله الخدمة العسكرية، فقد تم وضعه على أحد الحواجز الأمنية في مدينة السويداء ولم يُسرّح حتى الآن.

ويمنح المجند بعد انتهاء خدمته رقماً في الاحتياط ويمكن للسلطات أن تطلبه في أي وقت للالتحاق بصفوف الجيش. أي أن حتى الشباب الذين قاموا بتأدية الخدمة العسكرية قبل عام 2011، يخشون من أن يتم استدعاءهم مجددا.

لا مهرب من موافقات شعبة التجنيد

وتداولت وسائل الإعلام، قوائم أصدرتها السلطات، تضم أسماء أكثر من 15 ألف مطلوب للخدمة العسكرية في محافظتي دمشق وريف دمشق، خاصة في مناطق الغوطة الشرقية التي شهدت عملية تهجير واسعة في نيسان/أبريل من العام الماضي.

وذلك يعني أن الشاب داخل سوريا، يكون مجبرا على حمل السلاح أو يبقى هاربا من أعين الأمن غير قادر على ممارسة حياته بشكل طبيعي.

وحتى من أجل الزواج، يجب على الشاب الحصول على “موافقة رخصة الزواج” من شعبة التجنيد. فلا مهرب من موافقات شعبة التجنيد الإلزامي من أجل السفر والعمل والتصرف بالممتلكات.

إضافة إلى ذلك، يتهرب الكثير من الشباب السوريين من أداء الخدمة نظرا لسوء أحوالهم المادية واضطرارهم لإعانة عائلتهم، فالمجند يحصل على راتب لا يتجاوز الـ 50 دولار شهريا، وهو بالكاد يكفي تغطية الحاجات الأساسية للفرد الواحد.

وبحسب مصدر حكومي في دمشق رفض الكشف عن اسمه لأسباب أمنية، تجاوزت أعداد الأسماء المطلوبين للتجنيد الـ 350 ألف اسم على مستوى سوريا منذ بداية عام 2019.

التطوع في القوات التابعة لإيران أو روسيا مقابل الإعفاء من الخدمة

وفقا لمقابلات تم إجراؤها خلال إعداد التحقيق، تبيّن أن الشاب السوري الذي بقي في وطنه دون الالتحاق بالخدمة، اضطر لدفع مبالغ تتراوح بين 5 آلاف و8 آلاف دولار للحصول على ما يسمى بـ “طي ملف الاحتياط” أو الحصول على إذن استثنائي لمدة عام يصدر من وزارة الدفاع.

لكن أساليب أخرى برزت أيضا لتجنب الذهاب إلى جبهات القتال، إذ فضّل بعض الشباب الانضمام إلى “كتائب البعث” و”الدفاع الوطني” وغيرها من القوات الموالية للنظام التي تحصل على تمويلها بشكل مباشر من إيران، أو روسيا كقوات “النمر”.

فعند الحديث عن التجنيد الإجباري، لا يمكن إغفال الحديث عن الواقع السياسي في سوريا.

ومن أهم المراكز التي جذبت الشباب، وفقا للشهادات التي حصلنا عليها، كان مركز “سوا” للتدريب في حي المحافظة في حلب، ومقر تدريب في مطار ديرالزور وكذلك المركز الإيراني في منطقة السيدة زينب في دمشق، ومركز اللواء 47 (ثكنة محمد سلمون) الواقع على السفح الشمالي لجبل الأربعين في الريف الجنوبي لإدلب.

ويحصل المنضمون على عقد رسمي يضمن الإعفاء من الخدمة الإلزامية بالكامل مقابل تأدية الخدمة فيها لمدة عام ونصف فقط، كما تضمن عدم الاحتفاظ بالمتطوع بعد إنهائه الخدمة، على خلاف قوات النظام التي لا تزال تحتفظ بالآلاف من عناصرها الذين أنهوا خدمتهم نظريا.

قرب الحدود السورية العراقية، في منطقة البوكمال تحديدا، يوجد مركز للشرطة يسيطر عليه الحرس الثوري الإيراني، يعرض على المتطوع راتب 200 يورو شهريا وبطاقة انتساب لفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، والتي تؤمن له المرور بكل سلاسة على الحواجز الأمنية.

وبشكل عام، يتراوح الراتب الشهري للمجند في تلك القوات بين 200 و400 دولار، بينما لا يتجاوز راتب المجند في جيش النظام الـ 50 دولار.

العميد السابق أحمد رحال يؤكد أن الصراع الإيراني الروسي له تأثيرات واضحة على الجسم العسكري في سوريا، ومثلا “تحت الضغوط الروسية يصدر بشار الأسد قرار عفو عن حالات معينة، إلا أن الشخص نفسه الذي يفترض أن يكون مستفيدا من العفو، قد يتعرض بكل بساطة للاعتقال على حواجز أمنية تتبع للقوات الإيرانية”.

ويشير رحال إلى أن “المجند في الجيش، مغلوب على أمره وغالبا ما يقع ضحية لأنه يكون على الخط الأول للمعركة.. هناك قرى خسرت معظم شبابها فلم يتبق سوى النساء والعجزة والصغار. قرى بأكملها أفرغت من الشباب”.

بالرغم من انحسار المعارك العنيفة في مناطق واسعة من البلاد لا تزال مخاوف الشباب السوري من التجنيد الإجباري قائمة حتى اليوم. ويتساءل مجد عن مصير الكثير من أصدقائه الذين انخرطوا في الجيش في عمر الثامنة عشر ليتم تسريحهم اليوم وهم يبلغون 28 عاما، أي مستقبل أمام هؤلاء الشباب اليوم في بلد منهك على مختلف الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؟

المصدر: مهاجر نيوز