العربي الجديد – عدنان علي يتمحور الهدف الرئيسي من الحملة العسكرية الحالية لقوات النظام السوري على منطقة جنوب دمشق، كما حصل في عدد من المناطق الأخرى، حول تدمير هذه المنطقة بشكل كامل ومتعمد بحجة محاربة “الإرهاب”، وذلك في إطار خطط أوسع لإعادة “تأهيلها” و”تنظيمها” عمرانياً وسكانياً. ويعمل النظام على التخلّص من “الفائض السكاني” الطائفي والطبقي في مناطق حيوية لا تبعد سوى كيلومترات قليلة عن قلب العاصمة دمشق. مخطط بوشر العمل فيه بالفعل، ويمكن إدراجه في إطار نظرية بشار الأسد حول اهتمامه ببناء “مجتمع متجانس”، طائفياً واقتصادياً وطبقياً واجتماعياً، مثلما علّق ذات مرة على هجرة ملايين السوريين إلى الخارج. ومنطقة جنوب دمشق التي تضم العديد من المدن والبلدات والمناطق كانت من أكثر المناطق في محيط العاصمة، بل في سورية كلها، كثافة سكانية حيث كان يعيش فيها قبل الثورة نحو 2.5 مليون نسمة يتوزعون على مساحة محدودة نسبياً، تشمل بشكل أساسي مخيم اليرموك والتضامن (مليون نسمة) والحجر الأسود (نصف مليون) وبلدات يلدا وببيلا وبيت سحم وعقربا وسيدي مقداد (600 ـ 700 ألف)، إضافة إلى القدم وعسالي والسبينة وحجيرة والبويضة، وكان يقطنها ما لا يقلّ عن 300 ألف نسمة. ومنذ قبل الثورة (2011)، كانت هذه المنطقة، تضاف إليها منطقتا نهر عيشة والدحاديل اللتان تشكّلان المدخل الجنوبي لدمشق بالنسبة للآتي من درعا والأردن، محل اهتمام الدوائر الاقتصادية النافذة في النظام، لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى في ذلك الحين، لأنها مناطق حيوية وقريبة جداً من العاصمة. وهي في معظمها مناطق عشوائية معروفة بالمخالفات العمرانية. لكن العقبة الرئيسية التي كانت تعيق خروج مخططات “تطوير” أو “تنظيم” تلك المناطق كانت تتمثل في الكتلة السكنية الضخمة الموجودة فيها، وصعوبة إيجاد مساكن بديلة لأصحابها. وقد تم آنذاك عرقلة العديد من مشاريع الاستثمار الخارجية التي عرضت تأمين حلول للسكان المحليين. وبعد قيام الثورة، وتحوّل مناطق جنوب دمشق إلى معاقل رئيسية لمعارضة النظام بدءاً من التظاهرات السلمية، وصولاً إلى الثورة المسلحة، وجدها النظام فرصة لتشريد سكانها، وهدم مناطقهم، من دون أي تعويضات، بحجة أنه “يكافح الإرهاب والمجموعات المسلحة”. وحتى بالنسبة للعديد من المناطق التي استعادتها قوات النظام من المعارضة منذ 2013 مثل السبينة وحجيرة والبويضة (فضلاً عن مناطق شرق دمشق وفي مقدمتها السيدة زينب) لم يسمح لسكانها بالعودة إليها حتى الآن، بحجة أنها تحتاج إلى إعادة إعمار، بالرغم من أن نسبة التدمير فيها لم تكن عالية نظراً لعدم حدوث معارك كبيرة فيها آنذاك. وأخيراً أعلن النظام أنه “سوف يسمح بعودة الأهالي إلى بعض تلك المناطق”، لكنه وضع شروطاً تعجيزية لذلك، فلا تتم العودة في النهاية إلا للموالين له، ممن يسمّيهم “ذوي الشهداء والجرحى”، فيما طلب من الآخرين إثبات عدم تورطهم أو أحد أقاربهم في أية أنشطة مناوئة للنظام، و”ضرورة أن يلتحق المتخلفون عن الخدمة العسكرية بقوات النظام”، وأن “تشرح كل عائلة ظروف مغادرة أي من أفرادها للبلاد، وهل كان ذلك بطريقة شرعية أو لا”. وهو ما دفع معظم السكان إلى الإحجام عن العودة خشية تعرضهم للمساءلة والاعتقال، أو سوقهم للخدمة العسكرية. ولا تقتصر خطط النظام، التي يعتقد أن أيادي ايرانية تحرك بعضها، على جنوب دمشق، بل تشمل أيضاً مناطق أخرى من العاصمة ومحيطها مثل داريا، التي تم تهديمها وتهجير سكانها بالكامل، ومنطقة الرازي في حي المزة واللوان في كفرسوسة اللتين تم تشريد سكانهما أيضاً، وتوجيه إنذارات لهم بهدم منازلهم. وهما منطقتان شهدتا تظاهرات مناوئة للنظام في بداية الثورة. وفي الحديث عن المطامع الإيرانية، لا بد من الإشارة إلى أنها لا تقتصر على المناطق التي خرجت فيها تظاهرات مناوئة للنظام أو كان فيها وجود عسكري للمعارضة حال المناطق السابقة، بل تشمل أيضاً العديد من المناطق في دمشق نفسها التي لم تخرج أبداً عن سلطة النظام، خصوصاً مناطق دمشق القديمة التي تم تهجير كثير من سكانها بوسائل أخرى عبر الضغوط الأمنية والاقتصادية وافتعال الحرائق والرشوة والابتزاز باسيليا سيتي منذ حوالي شهر، أعلنت محافظة دمشق عن مخطط تنظيمي جديد باسم “باسيليا سيتي” (الاسم من اللغة السريانية ويعني الجنة) يشمل بساتين داريا القدم وعسالي ومنطقة شارع الثلاثين في مخيم اليرموك، بما يصل إلى 900 هكتار، أي تسعة ملايين متر مربع، وذلك بالتزامن مع توزيع إنذارات الإخلاء للأهالي في منطقة اللوان بكفرسوسة، بضرورة إخلاء منازلهم خلال شهرين. وتعتبر “باسيليا سيتي” المنطقة التنظيمية الثانية بعد مشروع “ماروتا سيتي” التي تنفذه المحافظة في منطقة خلف الرازي وبساتين المزة العشوائية. وقد بوشر العمل به في عام 2017، من قبل محافظة دمشق وشركة “شام القابضة” التابعة لرامي مخلوف ابن خال رئيس النظام، بشار الأسد. وكان الأسد أعلن أصلاً عن هاتين المنطقتين التنظيميتين في المرسوم التشريعي رقم 66 عام 2012، لتطوير مناطق المخالفات والسكن العشوائي. وتعتبر منطقة “باسيليا سيتي” من أكبر المناطق التنظيمية على مستوى سورية. ووصف مدير المشروع جمال يوسف في تصريح لوكالة “سانا” الرسمية المخطط بأنه “حضاري يليق بمدينة دمشق بشكل عام ويعتبر سابقة غير موجودة على المستوى التنظيمي والمناطق العمرانية في سورية”، مبيناً أنه “سيتم تلقي الاعتراضات إن وجدت وخلال مدة شهر قبل أن يتم تصديقه”. ونوّه إلى “إنجاز أعمال الحصر والتوصيف لنحو 85 في المائة من مساحة المنطقة، وتثبيت الإشغالات الموجودة فيها والتي تجاوزت 25 ألف إشغال بين سكني وتجاري وصناعي، وسيتم قريباً الدخول إلى منطقة القدم لإنجاز ما تبقى فيها من أعمال الحصر والتوصيف، وتثبيت الملكيات لدراسة السكن البديل للمستحقين”. وهنا تجدر ملاحظة أن تصريحات مدير المشروع كانت قبل شهر، بينما منطقة القدم كانت سابقاً مع فصائل المعارضة قبل أن يستحوذ عليها تنظيم “داعش” أخيراً، وما زالت تحت سيطرته حتى الآن، وهذا ربما يفسر توقيت بدء العملية العسكرية في جنوب دمشق من جانب النظام. كما يجدر الذكر أن أهالي المناطق التي هي أصلاً تحت سيطرة النظام، إما تم دفعهم لبيع ممتلكاتهم بأسعار بخسة، أو تم تعويضهم ببدل سكن للإيجار مقابل إخلاء منازلهم لصالح المخطط. وهو ما شكّل على قلّته، عبئاً على المحافظة، بينما سكان المناطق الخاضعة لسيطرة “داعش” أو فصائل المعارضة، وهم بمئات الآلاف، لن يحظوا بهذا الامتياز، لأنهم إما مشرّدون أساساً نتيجة الحرب، أو جرى تهديم بيوتهم خلال العمليات العسكرية السابقة والحالية. ماروتا سيتي يضم هذا المشروع مناطق جنوب شرقي المزة، (بساتين الصبار والمنطقة خلف السفارة الإيرانية وخلف مشفى الرازي واللوان في كفرسوسة) وقد بدأ العمل بها قبل عامين. وهو يمتد بحسب المخطط التنظيمي على مساحة مليوني متر مربع، وسيضم 12 ألف شقة سكنية، موزعة على 168 برجاً، يتراوح كل منها بين 11 و22 طابقاً. وسينتقل المركز الحكومي إلى منطقة التنظيم، عبر إحداث مبانٍ لمجلس الشعب هناك، إضافة إلى وجود مبنى رئاسة الوزراء والخارجية سلفاً في المنطقة. كما ستقام في المنطقة 17 مؤسسة تربوية، وأربع محطات وقود، وثلاثة جوامع، وكنيسة، لـ”ضمان صحة التوزيع الديموغرافي للسكان على مختلف عقائدهم” بحسب المخطط. وحسب الدعاية الرسمية للمشروع الذي لم تظهر منه بعد إلا المجسمات ثلاثية الأبعاد، فإنه سوف يبرز وجه دمشق الحديث. لكن على أرض الواقع لم يحصل شيء حتى الآن سوى تهجير سكان تلك المناطق وهدم بيوتهم، ريثما يتم إنجاز المشروع، وفق وعود محافظة دمشق. مخطط أشمل وكلا المشروعين، أي “باسيليا سيتي” و”ماروتا سيتي” يستندان إلى مشروع أشمل، بظلّ قرار حكومة النظام إقامة “منطقة تنظيمية جديدة في ريف دمشق، وإزالة العشوائيات”. فصدر مرسوم رئاسي بالقانون رقم 10 لعام 2018 قضى بجواز إحداث منطقة تنظيمية أو أكثر ضمن المخطط التنظيمي العام للوحدات الإدارية، وذلك بمرسوم بناءً على اقتراح وزير الإدارة المحلية والبيئة وتعديل بعض مواد المرسوم التشريعي رقم 66 لعام 2012. ومن خلال المراحل التي تمّت حتى الآن بالنسبة لمشروع “ماروتا سيتي”، لوحظ أن فئة قليلة من السكان استفادت من المشروع وهم من الميسورين ممن يمكنهم تأمين بدائل للسكن، وتحمّل نفقة الانتقال إلى مكان آخر للعيش، ريثما يتم إنجاز المشروع، بينما عمد معظم السكان إلى البيع لأن بدل الإيجار لا يكفيهم، واشتروا بيوتا في الضواحي البعيدة مثل قطنا والمعضمية وجديدة عرطوز. كما تم حجب بدل الإيجار عن البيوت غير المسكونة، إضافة إلى التمييز بين القاطنين على أساس الولاء للنظام، إذ نصّ الفصل الثالث من المرسوم 66 صراحة على أن المستفيدين في الدرجة الأولى من السكن البديل الذي ستوفره لهم الجهة المنفذة، هم “أسر الشهداء والجرحى”. كما يلفت مختصون إلى أن “العقود المبرمة بين الأهالي والجهة المنفذة، تمنح الأهالي صفة شاغلي العقار، بعد تنفيذه، لا مالكين له، إضافة إلى عدم تقدير قيمة أرضهم، إذ كان التقدير لقيمة العقارات فقط”. كما أنه لم يتم تحديد أية مهلة زمنية لانتهاء المشروع، ولا شروط جزائية على التأخير، وهو ما يعطي الشركات المستثمرة هامشاً كبيراً للتملّص من التزاماتها. وبالنسبة لأصحاب البيوت المهجرين خارج سورية، يجب على هؤلاء أن يوكلوا أشخاصاً بوكالات مصدقة من الخارجية السورية، وبالتالي يجب أن يحصلوا على “موافقة أمنية”، وإلا سيتم بيع البيت “الجديد” بالمزاد العلني. المستفيدون قبل أن تضع الحرب أوزارها، بدأ رجال أعمال سوريون، مقرّبون من النظام أو مندوبون عن دول في المنطقة، بالبحث عن حصة لهم في التنظيمات العمرانية المقرر إنشاؤها في العاصمة دمشق وضواحيها، عبر تأسيس شركات هدفها الأساسي الاستثمار في هذه المشاريع. واللافت في رجال الأعمال المتقدمين إلى هذه المشاريع إضافة إلى الشركات التابعة لرجل النظام رامي مخلوف، هم من طبقة ورجال الأعمال الجدد، الذين استفادوا من الحرب السورية وسط تساؤلات كثيرة عن مصدر أموالهم، لكن الثابت أنهم جميعاً مرّوا من دوائر التصفية الأمنية للنظام، فضلاً عن علاقات بعضهم من مراكز اقتصادية خارجية، بهدف إضفاء قدر من المشروعية على هذه المشاريع. أما المستفيدون من السكان فهم بالتأكيد ليسوا من الفقراء أو حتى متوسطي الحال، بل بشكل رئيسي من الأغنياء ورجال المافيات من داخل البلاد وخارجها. وبحجة مكافحة الإرهاب و”السكن العشوائي” تم وسيتم تهديم بيوت “حزام الفقر” حول دمشق وفي داخلها. فقد أتاحت ظروف الحرب الحالية للنظام فرصة ذهبية لتطبيق مخططاته التي لم يكن ليجرؤ عليها قبل ذلك. وأكد هذا المعنى مدير مديرية مشروع “تنظيم 66” جمال اليوسف، في مقابلة مع التلفزيون السوري الرسمي، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، حين قال: “تنظيم كفرسوسة كتجربة، في معالجة العشوائيات، غير مسبوقة، ليس على مستوى سورية فقط وإنما على مستوى العالم، لأنه لم يجرؤ أحد على الدخول إلى منطقة عشوائيات بهذه القوة ويزيلها وينقلها إلى واقع عمراني حضاري متميز”. وكما تم تدمير المباني والبيوت عمداً في مناطق مثل داريا والغوطة الشرقية من خلال عمليات القصف الجوي والمدفعي والصاروخي والبراميل المتفجرة من دون مبررات عسكرية في كثير من الأحيان، يتم اليوم تدمير مماثل لمناطق جنوب دمشق، خصوصاً منطقتي مخيم اليرموك والحجر الأسود اللتين يقطنهما أغلبية من اللاجئين الفلسطينيين والنازحين من الجولان السوري المحتل، وهم عموماً من الفقراء الذين ينظر إليهم النظام كفئات مهمشة معادية له بالفطرة. ومن الواضح أن المخططات التنظيمية الجديدة التي كانت سابقاً مقيّدة بقضايا قانونية بالتعويضات المالية أو بناء وحدات سكانية بديلة للسكان، تأخذ طريقها الآن إلى التنفيذ حتى قبل نهاية الحرب، لأن المناطق التي تستهدفها باتت إما خاوية أو ليس فيها كثافة سكانية كبيرة. بالتالي لم يعد ما يقيّد حرية النظام في إعادة هندسة العاصمة ومحيطها بما يتناسب مع خططه، وربما خطط إيران، للتغيير الديمغرافي القائم على أساس طائفي، فضلاً عن استفادته من دروس الحرب، والتي علمته ضرورة إرفاق الأبنية بشبكة طرقات ومواصلات متقدمة، وبناء مطارات جديدة لا يمكن لقوى معارضة السيطرة عليها. ويرى مختصون أن “هذه المشاريع غير مخصصة للسوريين العاديين، وإنما لطبقة أثرياء محلية ومن الدول العربية، بمن في ذلك رجال مافيات وزعماء فاسدون من كل أنحاء العالم”، مشيرين إلى أن “سعر المتر الواحد في الشقة السكنية في هذه المشاريع يبدأ من ثلاثة ملايين ليرة سورية (أكثر من ستة آلاف دولار) ما يعني سعر الشقة الواحدة سيكون 600 ألف دولار، كما سترفع هذه المشاريع الإيجارات في الأحياء الشعبية المجاورة لها، باعتبارها قريبة من الأحياء الراقية”.