كثر الحديث مؤخراً عن “تغييرات” مهمة في رأس هرم النظام السوري، تتمثل بإقالات وتعيينات قادة الأجهزة الأمنية. وتفشّت أنواع من التحليل “التخيّليّ” لأسباب ونتائج تلك التغييرات، خاصة في أوساط المعارضة، فيما خيم على معسكر النظام سكون ولا مبالة وكأنه “لا جديد على تلك الجبهة”. وهو الموقف الأكثر واقعية على ما يبدو، إذا لا شيء فيها ينبئ بتبدلات بنيوية أو سلوكيّة في نظام الأسد.
علي مملوك: سيرة ضابط سُنّيالأنباء عن تعيين رئيس “مكتب الأمن الوطني” اللواء علي مملوك نائباً لرئيس النظام، إن صحّت، تأتي في سياق اساسيات النظام المستقرة منذ أربعة عقود، والذي صممه حافظ الأسد على أساس أن يكون للسنّة الموقع الثاني في هرم السلطة “الرسمية” أي نائب الرئيس. بخلاف رفعت الأسد لم يعيّن حافظ الأسد أي شخص غير سني في هذا المنصب، الذي توالى عليه محمود الأيوبي وعبد الحليم خدام وزهير مشارقة وفاروق الشرع ونجاح العطار. وجميعهم من السنّة المنخرطين في نظام الأسد بشكل عضوي، لكن مملوك يتفوق عليهم بكونه ابنا شرعياً لنظام الأسد في كافة ملامحه وتفاصيله.
اللواء مملوك تخرج من كلية الكيمياء بجامعة دمشق في بداية حقبة حافظ الأسد، والتحق بالجيش ليؤدي خدمته العسكرية، حيث فُرِزَ إلى “المخابرات الجوية”. وهناك أظهر المملوك ميلاً إلى السلطة والسطوة الناعمة، فتلقفه العميد محمد الخولي، مدير “المخابرات الجوية” حينها، وجنّده كضابط عامل في ادارته.
وأولى مهمات علي مملوك، كانت قيادة مفرزة الحماية الشخصية لعبدالحليم خدام، عقب تعرضه لمحاولة اغتيال في الامارات العربية المتحدة سنة 1977، وطلبه تأمين حماية “موثوقة للغاية”، فرشح له الخولي، الضابط السنّي الصاعد علي مملوك، الذي كان يحمل رتبة نقيب.
لكن أقداره ما لبثت أن انعطفت بحدة صعوداً عندما بدأ حافظ الأسد مطلع الثمانينات بناء برنامجه للتسليح الكيماوي، وأسند مهمة ضمان “سريّة البرنامج” لـ”المخابرات الجوية”. وانيطت المهمة بالمقدم علي مملوك، ليس لكونه فقط الضابط الوحيد في “الجوية” الحائز على شهادة علمية في الكيمياء، بل وأيضاً لقرابته بالشخصية شديدة الغموض الدكتور في الكيمياء مجاهد مملوك، الأب الحقيقي للسلاح الكيماوي السوري.
أشرف مملوك بنفسه، ابتداءً من العام 1983، وحتى نهاية التسعينيات على تجارب البرنامج الكيماوي السوري بكل تفاصيله. وكان يدوّن، وفق شهود عيان أحياء، نتائج التجارب الكيماوية المطبقة على السجناء السياسيين في عنابر مغلقة بمنطقة أبو الشامات، عامي 1984 و1985، والذي عرف بـ”مشروع أيوب”. وأشرف في التسعينيات على التجارب في الهواء الطلق، على السجناء ايضاً، ودوّن نتائجها، في حقل الرمي التابع لمطار السين.
مع بداية عهد بشار الأسد، تسلم الضابط العلوي محمد سليمان كامل شؤون “مركز البحوث العلمية”، متضمناً البرنامج الكيماوي، الذي كان المملوك مسؤولاً عنه. فأعيد مملوك إلى “إدارة المخابرات الجوية” نائباً للمدير. ومع وصوله إلى رتبة لواء سنة 2005، واستحقاقه لمنصب المدير، كان لابد من نقله، فهذا الجهاز وفق تصميم حافظ الأسد لمراكز القوة، مخصص للعلويين، شأنه شأن “شعبة الأمن العسكري”. وهكذا جلب اللواء عبدالفتاح قدسية من “أمن القصر الجمهوري” لتولي “الجوية”، بينما نُقِلَ المملوك إلى الجهاز السني؛ “إدارة أمن الدولة”، التي رأسها شكلياً ضباط سُنّة منذ بداية السبعينيات؛ عدنان دباغ، وعدنان رام حمداني، ونزيه زرير، وفؤاد عبسي، وماجد سعيد، وبشير النجار، وعلي حوري، وعلي حمود، وهشام بختيار، وعلي مملوك، ومحمد ديب زيتون.
الرقابة على رؤساء “إدارة أمن الدولة”، كانت لصيقة من قبل ما يسمى بـ”الفرع الداخلي” في “أمن الدولة”، والذي اختص به علويون دائماً مثل محمد ناصيف، وبهجت سليمان، ومحمد فؤاد خير بك، وتوفيق يونس.
عند وقوع تفجير “خلية الأزمة” 2012، كان من شبه التلقائي، وفق آليات النظام الطائفية، صعود علي مملوك إلى منصب مدير “مكتب الامن الوطني”، المُخصص للسنة أيضاً، وشغله منذ السبعينيات كل من ناجي جميل، واحمد دياب، وعبدالرؤوف الكسم، ومحمد سعيد بخيتان، وهشام اختيار، الذي خلفه علي مملوك في هذا المنصب كما خلفه في “إدارة أمن الدولة” قبل ذلك.
المناقلات اذن طبيعية، وضمن سياق مدروس ومتبع منذ زمن طويل، بما فيها انتقاء السنّي الشركسي حسام لوقا، مديراً جديداً لـ”أمن الدولة”. فقد خص حافظ الأسد السنة الشركس بمنصب تمثيلي، غالباً في أجهزة الأمن. لوقا ورث وليد أباظة، ضابط “الأمن السياسي” معاون وزير الداخلية، وبسام عبد المجيد، قائد الشرطة العسكرية، الذي خلف غازي كنعان في وزارة الداخلية بعد مقتله، واللواء محمد خير عثمان، أحد مدراء مكتب حافظ الأسد.
جميل الحسن: العلوي الحمصيوكما علي مملوك، يُمثّل جميل حسن أحد الأمثلة الساطعة على الأبناء الشرعيين جداً لنظام الأسد، لكنه لا يتمتع بالصفة الاعتبارية لمملوك، كممثل للسنّة، بل يمثل فقط سلالة الانياب والمخالب الحادة لنظام الأسد، التي تضرب بأقصى الوحشية عند الحاجة، ويتم كسرها ببساطة ما أن تصاب بالهرم، أو يتجه نصلها الحاد نحو النظام نفسه. وهو الدور الوظيفي والمصير الذي آل له قادة سابقون مثل علي دوبا، وعلي حيدر، ومحمد الخولي، وغازي كنعان، وإبراهيم الصافي، وشفيق فياض، وهاشم معلا، وإبراهيم حويجة، وعز الدين إسماعيل، وحسن خليل، واحمد سعيد الصالح، وتوفيق جلول، وعلي اصلان، واحمد عبود، وغيرهم.
بدأ جميل حسن حياته ملازماً في “الوحدات الخاصة”، ولعب دوراً دموياً في احداث حماة، أهّله للانضمام إلى فريق الحماية الشخصية لحافظ الأسد، ثم قائداً لحراسة الموكب، الذي تطور ليصبح “فرع المهام الخاصة” التابع لـ”المخابرات الجوية”، والذي اقتصرت مهامه على حماية تنقلات حافظ الأسد داخل سوريا وخارجها. هذا ما ابعد الحسن عن شؤون الاعتقال والتحقيق والتعذيب، التي مارسها زملاؤه في الفروع الأخرى، بل كان بعيداً نوعاً ما عن المؤامرات التي يحيكها كبار الأمنيين لبعضهم البعض. وكاد جناح داخل “المخابرات الجوية”، يضم “المصيافيين” نسبة إلى العلويين من مصياف، الذي يقوده كل من اللواء عبدالفتاح قدسية، والعميد محمد قره فلاح، أن يطيح بالحسن وبحليفه رئيس “فرع التحقيق” أديب سلامة، العام 2009، وهما يمثلان الجناح الحمصي العلوي.
نُفي الحسن لسنتين قبيل الثورة إلى ديرالزور البعيدة جداً عن مركز صنع القرار، لكنه ما لبث أن عاد بقوة، ليتسلم “إدارة المخابرات الجوية”. وعند اندلاع الثورة السورية في العام 2011، وجد اللواء العجوز أن استعادة شخصية الملازم الدموي في حماة، التي حاز بفضلها ثقة الأب، هي أقصر الطرق إلى فؤاد الابن.
أما خليفته في “إدارة الجوية” اللواء غسان إسماعيل، فسيرته أيضاً مندمجة في حكاية نظام الأسد، وسلوكه داخله منسجم مع السير السابقة ومتماه معها، ولا يمكن اعتباره سوى حلقة أخرى في سلسلة المدراء السابقين لـ”الجوية”؛ منذ محمد الخولي، وإبراهيم حويجة، وعز الدين إسماعيل، وعبدالفتاح قدسية، وصولاً إلى جميل حسن. واسماعيل ينتمي إلى ذات الفرع من العائلات العلوية التي بزغ نجمها في كنف آل الأسد، وتلتزم بالولاء المطلق له. ويقال ان للمدير الجديد سبعة اشقاء، جميعهم ضباط في جيش النظام، قتل اثنان منهم في معارك الدفاع عنه.
نظام مضاد للسياسةلم يتغير نظام الأسد، بل هو يعيد انتاج نفسه الطريقة ذاتها، أي التوليفة العصبية الطائفية والعرقية البدائية، التي تقبع فوقها عائلة الأسد. والنظام ما زال متمسكاً بالعنف والترهيب كأسلوب لاكتساب السلطة، وتوزيع الغنائم بين “جلاديه” كوسيلة للمحافظة عليها. وهي صفات مضادة للسياسة بمفهومها المعاصر. وهنا تكمن فرصة المعارضة السورية، التي ينبغي لها أن تكون أكثر سياسية ومرونة وقدرة على التكيف مع الظروف، مثل ظرف الهزيمة المرحلية التي تمرّ بها.
المصدر: صحيفة المدن