بحث
بحث
عملة من فئة الدولار الأمريكي في أحد شركات الصرافة - انترنت

تراخيص الصرافة في سوريا تثير جدلاً: بين تعزيز المنافسة وخطر احتكار العملة

في خطوة أثارت جدلاً واسعاً، أعلن مصرف سوريا المركزي مؤخراً، عن قائمتين تضمّان أسماء شركات ومكاتب الصرافة المرخّصة رسمياً، وأخرى حاصلة على ترخيص مبدئي يسمح لها بمزاولة نشاط الحوالات المالية والصرافة، ليصل عددها الإجمالي إلى أربعين جهة، بينها 14 شركة ومكتباً مرخّصاً، و26 شركة حصلت على تراخيص مبدئية.

وشملت القائمة الأولى أسماء معروفة في السوق مثل “الفؤاد” و”شخاشيرو” و”ديار”، لكنها خلت بشكل لافت من شركة “الهرم” الشهيرة، الشريكة لتطبيق “شام كاش” في تسليم رواتب موظفي الدولة، ما أثار تساؤلات حول وضعها القانوني.

وأما القائمة الثانية، فجاءت بأسماء شركات كانت تعمل سابقاً في مناطق الشمال السوري، وحصلت مؤخراً على تراخيص مبدئية تتيح لها العمل في مختلف المحافظات، بما فيها دمشق وحلب، بعد توفيق أوضاعها بموجب قرار المصرف رقم (199 ل.أ).

ويفرض القرار على الشركات القادمة من الشمال إيداع ما لا يقل عن 1.25 مليون دولار أميركي في حسابها لدى البنك المركزي، كمكوّن أساسي من رأس المال المدفوع، وهو شرط يرى فيه مراقبون محاولة لضمان الجدية والسيولة، لكنه في الوقت نفسه يفتح الباب أمام تركّز رأس المال بيد فئة محدودة من المستثمرين، ما يكرّس الاحتكار ويقيد المنافسة.

وتكشف قراءة توزيع التراخيص عن خريطة نفوذ لافتة: في دمشق، تتركز 36.4% من الشركات المرخصة و9.1% من المكاتب المرخّصة، مقابل 54.4% من الجهات التي حصلت على ترخيص مبدئي.

أما حلب، فتضم 25% من الشركات المرخصة و12.5% من المكاتب، و62.5% من الشركات ذات الترخيص المبدئي. وفي حمص، تتوزع النسب بالتساوي تقريباً بين الشركات (25%) والمكاتب (25%)، فيما تمثل الجهات الحاصلة على ترخيص مبدئي 50% من الإجمالي. أما اللاذقية، فتمثل فيها التراخيص المبدئية النسبة الأعلى على الإطلاق (80%)، في مقابل 20% فقط للشركات المرخصة وعدم وجود أي مكاتب صرافة مرخّصة فعلياً.

المضاربات والأسعار

ويرى مراقبون أن هذه الخطوة لا يمكن فصلها عن قرارات سابقة للمركزي، أبرزها السماح بنقل المبالغ المالية بين المحافظات دون تحديد سقف للقيمة. فبينما برّرت السلطات هذا القرار برغبتها في تسهيل التعاملات التجارية ودعم النشاط الاقتصادي، فإنه فتح عملياً مجالاً أوسع أمام شركات الصرافة، خصوصاً الحاصلة على تراخيص مبدئية، لتحريك كميات كبيرة من العملات الأجنبية عبر قنوات رسمية، ما قد يضاعف قدرتها على التحكم في السوق.

ويحذّر هؤلاء من أن الجمع بين منح تراخيص جديدة ورفع القيود على حركة الأموال قد يعيد إنتاج شبكات احتكار العملة التي كانت سائدة أيام النظام السابق، مع فارق أنه يجري هذه المرة تحت غطاء قانوني يمنحه المركزي.

عميد كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، علي كنعان، عبّر عن قلقه من تداعيات السماح لعدد كبير من الشركات بالتعامل بالقطع الأجنبي، مشيراً إلى أن هذا الإجراء قد يؤدي إلى حصر الكتلة الأكبر من العملات الأجنبية بيد مؤسسات الصرافة الخاصة، بدل أن تكون تحت إدارة مصرف سورية المركزي أو المصارف الرسمية.

وأضاف كنعان أن هذه الخطوة قد تمنح الشركات الخاصة قدرة أكبر على التأثير في سوق الصرف، ما قد يزيد من التذبذب وعدم الاستقرار في سعر الليرة السورية، خصوصاً في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة التي تشهد اضطراباً مستمراً في الأسواق.

وتابع: “من الناحية الاقتصادية، أي زيادة في الدور الفاعل للشركات الخاصة في تداول العملات الأجنبية تتطلب رقابة صارمة وآليات شفافة لضمان عدم استغلال السوق وتحقيق أرباح غير عادلة على حساب المستهلك أو الاقتصاد الوطني.

وفي الوقت نفسه، لا يمكن تجاهل الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه الشركات في تسهيل تحويل الأموال ودعم السيولة في السوق، إذا ما جرى تنظيمها بشكل صحيح”.

وأشار كنعان إلى أن الموازنة بين السماح للشركات بالعمل في السوق وبين الحفاظ على قدرة المركزي على التحكم بالعرض النقدي، هي مفتاح استقرار سعر الصرف وحماية مدخرات المواطنين.

وأضاف: “الحل يكمن في وضع إطار تنظيمي صارم، يحدد سقوف التعاملات، ويشترط التقارير الدورية والشفافية في التحويلات، لضمان أن دور هذه الشركات يدعم الاقتصاد بدلاً من أن يكون مصدراً لمزيد من الاضطراب المالي”. حين يكون النقد الأجنبي بيد مؤسسات الصرافة الخاصة، بدل أن يكون تحت إدارة المركزي أو المصارف، معتبراً أن هذه الخطوة قد تزيد من قدرة تلك الشركات على التأثير في سوق الصرف، خاصة في ظل الاضطراب المستمر في سعر الليرة.

بين التنظيم القانوني وشرعنة النفوذ المالي 

ويرى الخبير الاقتصادي علي الأحمد أن دمج شركات الشمال وإعطاءها تراخيص مبدئية “قد يحمل أثراً إيجابياً على السوق إذا حسن تنظيمه”، موضحاً أن دخول هذا العدد من الشركات سيوسّع شبكة الحوالات، ويزيد من المنافسة في تقديم الخدمات، ما قد يحد من هيمنة عدد محدود من المكاتب على السوق.

وأضاف أن اشتراط إيداع مبالغ بالدولار في حسابات هذه الشركات لدى المركزي “يوفر مصدراً إضافياً من القطع الأجنبي يمكن استثماره في تمويل المستوردات أو دعم احتياطيات البنك”، لكنه حذر من أن ضعف الرقابة قد يحوّل هذه التراخيص إلى أداة لاحتكار السوق من قبل مجموعات ذات نفوذ.

ويربط الخبير الاقتصادي هذه التطورات بارتفاع سعر الدولار في السوق الموازية خلال الأيام الأخيرة، موضحاً أن “الإعلان عن منح تراخيص جديدة، خاصة لشركات قادمة من الشمال، أثار توقعات بزيادة الطلب على القطع الأجنبي لتأمين رأس المال المودع لدى المركزي، ما دفع بعض المضاربين إلى رفع الأسعار مبكراً”. لكنه يرى أن هذا الأثر “قد يكون مؤقتاً إذا أحسن المركزي إدارة عملية إدخال هذه الشركات إلى السوق وضبط حركة الأموال”.

أما بيان المركزي نفسه، فجاء بصيغة رسمية تدعو المواطنين إلى حصر تعاملاتهم في المؤسسات المرخصة، ملوّحاً بمخاطر الصرافة غير الشرعية من تداول عملات مزورة ونقص في السيولة الورقية.

ولكن بين سطوره، برزت مؤشرات على واقع نقدي هش وعجز تنظيمي عن ضبط السوق، حيث لم يقدم البيان خطة عملية لتعويض المتضررين أو توضيح قدرة المؤسسات المرخصة على تغطية احتياجات السوق، بينما تركت شروط الترخيص المرتفعة الباب مفتوحاً أمام شبهة خدمة مصالح الشركات المحظية على حساب المنافسة.

وفي المحصلة، يبدو القرار بالنسبة لعدد من المراقبين أكثر من مجرد تنظيم لقطاع الصرافة؛ إنه إعادة رسم لخريطة النفوذ المالي، و”شرعنة” لضابطة عدلية جديدة تمنح الشركات الكبرى دوراً محورياً في التحكم بسوق العملات، في وقت لا تزال فيه الليرة تحت رحمة المضاربات وفوضى السوق الموازية.

المصدر: العربي الجديد