بعد أكثر من خمسة عقود من حكم أمني قمعي غلَّف الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في سوريا، انهار نظام الأسد وخلف وراءه تركةً ثقيلة للإدارة الجديدة؛ في بلد منهار تماماً يرزح 90 في المئة منه تحت خط الفقر.
وبينما تتوجه الأنظار نحو بناء نظام سياسي واقتصادي جديد يساعد على إرساء قواعد لديمقراطية محلية في عهد الحكومة الجديدة، يغفل كثيرون عن تحدٍ لا يقل خطورة وتعقيداً عن التحديات الأمنية والعسكرية في البلاد وهو انهيار اقتصاد الأجهزة الأمنية الذي تغلغل في أعماق الاقتصاد السوري لعقود، والذي كان قد طوّر مجموعة شبكات لاقتصاد الظل.
شبكة مافيوية متجذّرة
لم تكن الأجهزة الأمنية السورية أدوات قمع سياسي وأمني فحسب، بل تحوّلت منذ السبعينيات إلى مراكز قوى اقتصادية مافيوية، تحت إمرة إدارات المخابرات السورية؛ وبالنتيجة نشأت شبكات مصالح اقتصادية عابرة للقطاعات والحدود، اعتمدت على القوة الأمنية والابتزاز لفرض سيطرتها على الموارد الوطنية والأسواق.
بعد 2011، بدأ التغول الأمني لتشكيل امبراطورية اقتصادية للمسؤولين الأمنيين من خلال الحواجز العسكرية التي قطعت اوصال المدن وفرضت إتاوات على السيارات والمصالح التي تنتقل بين مدينة إلى أخرى، وأرهقت اقتصادها لا سيما القطاع الزراعي والصناعي في المنطقة الجنوبية من دمشق ومناطق حلب والمدينة الصناعية في حمص.
تباينت هذه الإتاوات بحسب البضائع المنقولة، وفُرضت وصاية أمنية على العديد من المصانع المحلية إما من خلال إجبار أصحاب المصالح على تنفيذ شراكات مع المسؤولين بحجة الحماية والدعم وإيجاد مخارج لقرارات حكومة نظام الأسد حينها؛ أو من خلال فرض حصة شهرية من الأرباح لصالح ما يسمى “الترفيق الأمني” عبر توفير سيارات حماية أمنية وعناصر مسلحين ترافق البضائع وتعبر الحواجز على “الخط العسكري” من خلال تفتيش شكلي.
حيث استغل المسؤولون الفوضى الأمنية في البلاد لفرض مبالغ باهظة على رجال الأعمال، مقابل السماح لهم بالعمل أو حماية مصالحهم من الابتزاز والمصادرة، بالإضافة إلى مبادرات الترفيق الأمني، نشأت شبكات التهريب الداخلية والعابرة للحدود حيث كان هناك سيطرة شبه مطلقة على طرق تهريب المخدرات، كالحشيش والكبتاغون، والأسلحة، والسلع الأساسية عبر الحدود مع لبنان، والعراق، والأردن، حيث تشير تقديرات 2022 إلى أن صادرات الكبتاغون السورية بلغت نحو 5.7 مليار دولار سنوياً من وإلى لبنان والعراق والخليج العربي لصالح قوات الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد شقيق الرئيس المخلوع.
وعلى غرار الحماية الأمنية، تغولت المخابرات في سوق العقارات السوري، الذي شهد فورةَ في الأسعار نتيجة النزوح الإجباري من مناطق تركز عليها القصف والتدمير الوحشي، ووجود مستثمرين أجانب ابرزهم الإيرانيون و الروس لا سيما في الساحل ودمشق.
كان التحكم بسوق العقارات عبر واجهات تجارية وسماسرة محسوبين على الأجهزة الأمنية، واستحوذ المسؤولون على عقارات حيوية في دمشق، واللاذقية وطرطوس، وحمص إما بالضغط الأمني او التهديد باعتقال ملاكها الأصليين أو حتى الاستيلاء عنوة وتحويل ملكياتها لمستثمرين أجانب مقابل الحصول على أموال أو امتيازات في الخارج.
ولزيادة التحكم في سوق العقارات، رافق هذا السلوك إجراء أمني هو الحصول على “موافقة أمنية” في حال أرد أي من المواطنين بيع أو نقل أو استئجار أي عقار (تجاري أو منزلي)، لمعرفة وضع المالك الأمني و يتم الإجراء بناء عليه. في حال كان صاحب العقار مطلوباً للأفرع الأمنية، لا يُسمح بالاستفادة من العقار، ويتجرأ مسؤولون أمنيون على العقار بحجة أنه لمعارضين أو سكان هاجروا بسبب وضعهم الأمني.
سمحت السطوة الأمنية لأجهزة المخابرات السورية بالتغول في مساحات التجارة الداخلية، وأملى المسؤولون الأمنيون في كل قطاع تجاري شروطهم على حركة السلع والأسعار عبر احتكار تراخيص الاستيراد والتوزيع، وإجبار التجار على التعاون مع الدوريات الأمنية التي يسيرها قادة القطاعات، وتوظيف مجموعة مندوبين أمنيين إلى الأسواق الكبرى كسوق الهال وسوق الحمراء والصالحية في دمشق، وأسواق الفرقان والموكامبو وسيف الدولة في حلب وغيرها ؛ تقوم بدور الجباية لصالح قادات القطاعات.
استباحت الأجهزة الأمنية هذه الأسواق لدرجة انها أصبحت قادرة على التلاعب بالقطاع المصرفي والسوق السوداء عبر شركات وهمية ورجال واجهة لنهب العملة الصعبة والتحكم بأسعار الصرف، فأصبح لدينا سعر وهمي وسعر السوق المركزي وسعر السوق السوداء، و يختلف السعر من محافظة إلى أخرى. هذا الاقتصاد “الموازي” لم يكن ثانوياً أو هامشياً؛ بل مثّل رافعة تمويل أساسية للنظام، وقاعدة ولاء لشبكة من الضباط ورجال الأعمال المرتبطين بالأجهزة الأمنية.
سقوط النظام وانهيار اقتصاد الأجهزة
مع تفكك أجهزة النظام في كانون الأول/ديسمبر 2024، انهارت تباعاً المنظومة التي كانت تحمي هذه الشبكات الاقتصادية. فقد فقدت تلك الشبكات الحماية القانونية والسياسية التي كانت تعفيها من المحاسبة والملاحقة؛ وشبكات الولاء الشخصي التي بُنيت على علاقات مع الأسد ودائرته الضيقة؛ وفقدت سيطرة الأجهزة على المنافذ الحدودية التي كانت تُدرّ مئات الملايين من تجارة السلاح والبشر والمخدرات.
نظرياً، الانهيار حميد وموفق لصالح الشعب المنهك اقتصادياً، لكن عملياً، يطرح هذا الانهيار مخاطر جدية على الاقتصاد والمجتمع السوري في الرحلة الانتقالية على أقل تقدير.
كان نتيجة هذا الانهيار والاستخفاف بقوانين الإدارة الجديدة التي لم تُبدِ حزماً في تنفيذ عدالة انتقالية واضحة؛ نشوء شبكات جريمة منظمة مستقلة (أو ممولة)، تتكون من فلول نظام الأسد، قد تتحول إلى مجموعة أمراء حرب محليين يُعيدون تنظيم شبكات التهريب والجريمة و يتحكمون بمنافذ البلاد بشكل أو بآخر يعيد تعطيل الاقتصاد الرسمي في ظل استمرار الاقتصاد الموازي الذي يقوّض جهود بناء بيئة اقتصادية شرعية وشفافة.
غياب هذه العدالة من جهة وعودة عناصر موالية لنظام الأسد كانت قد تبخرت ليلة السقوط مع عتادها في ظروف غامضة، يقود إلى تهديد الأمن الاجتماعي على اعتبار أن عشرات الآلاف ممن كانوا منتفعين من اقتصاد الأجهزة قد يجدون أنفسهم بلا مصادر دخل، الأمر الذي ينذر باضطرابات وحالات تمرد.
توجهات الإدارة الجديدة
القصة ليست اقتصاداً غير رسمي بسيط أو تجارة تهريب عابرة، بل شبكة اقتصاد أجهزة أمنية معقدة تمتد منذ عقود، تداخلت فيها المصالح الأمنية مع المال والسياسة، وتحولت أجهزة المخابرات إلى أدوات للسيطرة على الموارد، واحتكار الاقتصاد والأعمال.
التعامل مع هذا الإرث لن يكون سهلاً، وهناك على الأقل ثلاث طرق يمكن التفكير بحالة سوريا المنهكة والمضطربة اقتصادياً؛ أولها عبر التفكيك القانوني الكامل، أي محاسبة الكبار ممن استفادوا ونهبوا، عبر هيئة عدالة انتقالية مستقلة تحاكم هؤلاء وتصادر أموالهم، بتعاون دولي لكشف الأرصدة والعقارات خارج سوريا؛ وثانيها الاستيعاب التدريجي، بمعنى أن تفاوض الدولة الجديدة مع العناصر الأقل نفوذاً ممن انخرطوا في اقتصاد الأجهزة، وتعرض عليهم تسوية أو عفواً محدوداً مقابل اندماجهم في الاقتصاد الرسمي وتخليهم عن الأنشطة غير المشروعة. هذا خيار عملي، وقد يجنّب البلاد صدامات عنيفة لكنه مخاطره تكمن في أن بعض الفساد سيُشرعن بشكل جديد، وقد يصعب لاحقاً ضبط هؤلاء بالكامل.
أما ثالثها، فهو هو بناء اقتصاد بديل مغرٍ، عبر إيجاد فرص أفضل داخل الاقتصاد من خلال إصلاح القوانين، وتشجيع المشاريع الصغيرة، ودعم القطاعات الإنتاجية، وإعادة ضبط النظام المصرفي، بحيث يشعر السوريون أن العمل في الاقتصاد الرسمي أكثر أماناً وربحية من العودة لاقتصاد الظل.
يحتاج هذا الحل تمويلاً ودعماً دولياً (وهذا ظاهر في الدعم الذي قدمته دولة قطر للحكومة السورية من خلال تقديم منحة مالية قيمتها 87 مليون دولار، موزعة على ثلاثة أشهر قابلة للتمديد، أي بمعدل 29 مليون دولار شهرياً)، وبالتالي إن نجح هذا المسار فسيقلّص تلقائياً نفوذ الاقتصاد غير المشروع لصالح اقتصاد متكامل.
المصدر: جريدة المدن اللبنانية