بحث
بحث
حافظ الأسد وابنه الرئيس المخلوع بشار بالملابس الداخلية - انترنت

حافظ الأسد في “يوتيوب” سعيداً ضاحكاً…أرشيف سوريا المنهوب

في وقت لاحق على الاهتمام العالمي والعربي بتبعات سقوط بغداد العام 2003، وانهيار الدولة البعثية العراقية، وحلّ الجيش، وهروب قادته، وتحوُّل صدام حسين وولديه إلى طرائد للقوات الأميركية الغازية، وضعت فئة من العراقيين نصب عيونها أن تدخل بيوت الصدّاميين الكبار، لا لتنهب المقتنيات الثمينة الكثيرة في القصور والشقق الفارهة فحسب، بل لتستولي على الوثائق الخاصة بهؤلاء، وعلى الأخص تلك التي توثِّق حيواتهم الرغيدة.

ولم يمر وقت طويل حتى صارت التفاصيل المخفية عن حياة عديّ وقصيّ، ولدَي الرئيس، مادة مفضلة للمشاهدة، تُنسخ في أقراص مدمجة وتُباع على الأرصفة.

ووصلت نسخ من هذه المواد المثيرة إلى دمشق، وشاهدها السوريون، وبعد قليل انتقلت العدوى إلى شبكة الإنترنت، وسادت لفترة موضة مشاهدة أفعال الأخوين الصدّاميَين في حفلات الليل، وكذلك ممارساتهما مع مرافقيهما، وغير ذلك.

في دمشق، وبُعيد انهيار سلطة الأسديين، وهروب رأس نظام البراميل وعائلته إلى موسكو، حدث شيء مشابه لما جرى في بغداد، لكن في نطاق أصغر. إذ ضُبطت الأمور بعد فترة وجيزة.

لكن إلى هذه اللحظة، لا أحد يعرف حجم وعدد الأشياء التي سُلبت من بيوت العائلة أو قصورها، لكن بعض ما تم الحصول عليه، سارع ناهبوه إلى نشره.

فبرز، وبشكل كوميدي، ألبوم صور، يظهر فيه بشار الأسد بالملابس الداخلية، وصار اسمه بعد نشر الصور “أبو كلاسين”، إضافة إلى صوره مع مجموعة من أصحابه وصاحباته، وهم يسبحون ويتسلّون في مكان ما! كما أظهرت صور وفيديوهات مقتحمي الأمكنة أن عائلة أسماء الأسد كانت تخزن في ثلاجات ضخمة كميات مهولة من الأطعمة باهظة الأثمان، بينما كان السوريون يعيشون بالتقتير والقلق من المجاعة.

لم ينشر أحد ممن استولوا على هذه الوثائق أشياء مثيرة غير ما سبق ذكره، فبدا وكأن العائلة قد حسبت حسابًا لمثل هذه اللحظة، فنقلت أرشيفها إلى أمكنة مجهولة، وربما سرية، أو أخذته معها إلى موسكو، أو إلى حيث استقر أفرادها الآخرون، إذ يُقال إن ماهر الأسد يتنقل بين العراق وموسكو، ولا أحد يعرف أين انتهى الحال بالمقرّبين الأقل شأناً!

في “عجقة” ما جرى، لم ينتبه اكثيرون إلى أرشيف آخر يجب أن يسترعي انتباه السوريين، يتضمن كل ما يخص الأسد الأب، لا سيما أن الفجوة الأكبر في معرفة أسرار المرحلة الأسدية تتركز في زمنه.

ففي ذلك الوقت، لم تكن هناك شبكة إنترنت، ولم تكن هناك فضائيات يلاحق صحافيوها كل شيء، بل إدارة صلبة تتحكم في ما يجب أن يشاهده الجمهور وما يُمنع وبشكل كامل وصوله إليه.

وبينما كانت مرحلة الابن تتحمّل، وربما تتطلب، أن يشاهد السوريون رئيسهم الشاب وهو يلعب، يمزح، ويضحك، ويزور الأنشطة الثقافية، ويحضر حفلات موسيقية كلاسيكية أو دينية، وغير ذلك… لم يكن بالإمكان مطلقًا إظهار حافظ الأسد ككائن بشري طبيعي، بل صارت صورته جزءاً من اشتغال بعض مستشاريه الذين ساهموا في صناعة مشهديته الخاصة.

فهو القائد المُلهَم، صاحب الرؤى، الذي لا يضحك، بل يبتسم فقط، وبمقاييس دقيقة، لا يُسمح أن تتسع. وإذا حصل وارتدّ الزعيم الذي سيصبح خالداً بعد موته، إلى إنسانيته، فإن ما يجب عرضه على الجمهور يجب ألّا يتضمن هذا الاسترخاء النادر لسيادته.

كانت إدارة التلفزيون السوري، ومنذ بداية السبعينيات، قد فرزت عددًا من المصورين، ليعملوا في متابعة شؤون “السيد الرئيس”، وهؤلاء صار اسمهم “مُصوّري القصر”، يتمتعون بمعاملة خاصة من قبل مديريهم، وترى كيف أنهم يمشون بخيلاء في ممرات المبنى حين يُضطرون لسبب ما إلى مراجعة قسمهم في الطابق الثاني! وأيضاً صار هناك عدد من فنيي المونتاج المتفرغين لقصقصة ظهورات الرئيس غير المقبولة، في النسخ المقرر عرضها للجمهور.

وتبعاً لآلية العمل هذه، يمكن تصور أن أرشيف الرئاسة السورية منسوخ مرتين: نسخة أولى خاصة بالإعلام، ونسخة أخرى تتضمن اللقطات الأصلية التي توثّق كل شيء.

كان الأرشيف الأول مَدار بحث وقصص كثيرة، فقيل إن قسم الأخبار في التلفزيون اكتشف بعد موت الرئيس أن جزءاً من أرشيفه، الذي خُصصت له زاوية خاصة في المكتبة، وتم توظيف فنيين محددين لتوثيقه بدقة بحيث تكون اللقطة حاضرة حين تُطلَب… ناقص، أو غير متوافر.

وهو ما اضطرهم للاستعانة بالأصدقاء كي يتم ترميم النقص بسرعة. وقيل إن تلفزيون “المستقبل” اللبناني لبّى الطلب بسرعة، فمضت الأمور على خير. لكن أحدًا لم يُجب في دولة الأسديين الحديدية عن مصير الأرشيف الرسمي، وإلى هذه اللحظة بقي الحصول على إجابات دقيقة متعسراً، مع تراكم الزمن، ومرور 14 سنة على وقائع الثورة السورية.

أما الأرشيف الثاني، أي تلك الأشرطة الأصلية التي يظهر فيها جزار حماة، وهو يتصرف على راحته، فقد سأل عنها العارفون بوجودها، من دون العثور على معلومات كاملة حول جزء مهم من الأرشيف السوري.

وتضاعفت الأسئلة بعد انهيار النظام ودخول البعض إلى قصرَي المهاجرين والشعب، حيث يُظن بصعوبة سرقة أشرطة سينمائية أو تلفزيونية من أنظمة قديمة، لا يُعثر على أجهزة تعرضها إلا في التلفزيونات العريقة أو الشركات المتخصصة.

لكن هذا الأرشيف كان يُنقل دائمًا من أقدم الأنظمة إلى أحدثها، ولا يُستبعد أن يكون قد صار مسجّلًا على ذواكر خارجية “هارد ديسك”، يتمكن الحاصلون عليها من مشاهدة محتوياتها بسهولة، كما يمكنهم القيام بنشرها في وسائل التواصل الاجتماعي مثل “يوتيوب” و”فايسبوك”.

وإلى هذا، يُعزى قيام أحد الأشخاص بإنشاء قناة حملت عنوان (Syria under Assads – Rare footage)، دأب فيها على نشر لقطات ومَشاهد نادرة فعلًا، لم يشاهدها الجمهور من قبل. فبينما لا يتذكر الجمهور رؤيتهم حافظ الأسد ضاحكاً، سيجدونه فاغر الثغر والعينين وسعيدًا تملأه البهجة، وهو يتابع مع شقيقه رفعت مَشاهد القفز المظلي للشابات اللواتي تم تجنيدهن ضمن سرايا عسكرية أشرف عليها الأخير.

وتُقدّم اللقطات دليلًا لا يقبل الشك في أن السرديات الأسدية، التي حاولت تصوير حافظ على أنه عاقل يختلف عن شقيقه الأرعن، كاذبة، وأن ما كان يروق للأخ المتمرّد على أخيه كان يروق أيضًا لهذا!

وفي فيديو آخر، سنشهد حواراً بين حافظ الأسد والرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، يتبادلان فيه الكلام، بينما يقبع بينهما مترجم يحاول أن يشرح لكل منهما ما يقوله الآخر! وفي أواخر ما بثته القناة، سيعثر المشاهد على مَشاهد نادرة لجلسة مجلس الشعب التي تقرر فيها ترشيح الأسد في العام 1971 إلى رئاسة الجمهورية.

ربما ينشر “صاحب” القناة الكثير مما سيدهشنا عن أحوال فترة الديكتاتور الأب، ما يضع تاريخها أمام عيون المشاهدين.

لكن هذا لن يوقف الأسئلة المهمة، والتي نتمنى ألا تكون مُحرجة للقيادة السورية الجديدة، عن ضرورات إنشاء المركز السمعي البصري السوري، الذي يتولى حفظ الأرشيفات السورية المنهوبة والمتناثرة، ويضعها في خدمة الباحثين والمُنتجين والمُخرجين، الذين يدركون بأن تاريخ سوريا المصوَّر كنز ثمين لمن يرغب في صناعة البحوث والأفلام.

المصدر: جريدة المدن اللبنانية