للمرة الأولى منذ عقود، سُمح للدروز السوريين بدخول إسرائيل، فشقت الحافلات طريقها إلى ضريح الشيخ أمين طريف، الزعيم الروحي للطائفة بين عامي 1928 و1993، وكان في استقبالهم أفراد من الطائفة الدرزية في مرتفعات الجولان التي ضمتها إسرائيل.
وأحيطت الزيارة بحماسة ظاهرة، بينما كانت الرايات الدرزية ترفرف على جانبي الطريق، وقد التقت من جديد جماعتان من طائفة واحدة، فرقت بينهما الحدود والعداوة المقيمة بين البلدين.
ولكن في حين أن هذه اللحظة تفتح أمام الطائفة فرصا جديدة، فإنها تحمل في طياتها أيضا مخاطر جمّة للطائفة التي تنتشر في ثلاث دول: إسرائيل، وسوريا، ولبنان. وقد اعترف رئيس الوفد الدرزي الزائر في كلمته بذلك، حين وصف هذه اللحظة بأنها “حساسة”.
كان ذلك أحدث دليل على الجهود الإسرائيلية الملحوظة للتأثير على الدروز السوريين. فمنذ سقوط نظام بشار الأسد، تحاول إسرائيل تنصيب نفسها كمدافع عن الأقليات، سواء كانوا دروزا أو كردا، أو حتى علويين ومسيحيين.
ويقع الدروز السوريون في قلب هذه الجهود لأنهم الأقرب إلى إسرائيل جغرافياً من جهة، ولأن بإمكان إسرائيل أن تدعي أنها تقدم الحماية دفاعاً عن الطائفة الدرزية في البلاد. وكجزء من هذه الجهود، وزعت إسرائيل مساعدات على المجتمعات الدرزية في جنوب سوريا وتعهدت بمنح الدروز السوريين الحق في العمل في إسرائيل.
والأهم من ذلك، تعهد المسؤولون الإسرائيليون بالدفاع عن الدروز: مع اندلاع الاشتباكات بين السكان في مدينة جرمانا التي يقطنها الدروز جنوب دمشق والمقاتلين التابعين للحكومة السورية الجديدة، وأرسلت إسرائيل تحذيرات بأنها لن تسمح للقوات التابعة للحكومة الجديدة بدخول المدينة.
وبالفعل، أمر وزير الدفاع يسرائيل كاتس جيشه بـ”بالاستعداد للدفاع” عن المدينة، مؤكداً أن حكومته “لن تسمح للنظام الإسلامي المتطرف في سوريا بإلحاق الأذى بالدروز. وإذا ما فعل، فسوف نضربه نحن”.
بل إن الطائرات الإسرائيلية حلقت فوق الكثير من المناطق ذات الأغلبية الدرزية، في استعراض للقوة، على الرغم من أن القوات الحكومية السورية دخلت في نهاية المطاف إلى جرمانا دون عنف أو أي إشارة إلى تدخل إسرائيلي.
دروز سوريا والنظام الجديد
واقع الحال أن دروز سوريا يجدون أنفسهم بين خطرين. فمن جهة، يتحدث بعضهم عن مخاوف من السلطة الجديدة في دمشق بقيادة الرئيس أحمد الشرع.
وتتذكر الطائفة الدرزية أن “جبهة النصرة” التي كان يقودها أحمد الشرع نفسه، نفذت بالفعل هجمات ضد الطائفة الدرزية. ولا تنسى أن إحدى أسوأ الهجمات التي تعرضت لها كانت على يد تنظيم “داعش” الذي نفذ مجزرة في مدينة السويداء واحتجز العشرات كرهائن.
ولا يخفف من قلقهم حقيقة أن الشرع و”داعش” خصمان لدودان، وأنهما تقاتلا لسنوات. وقد سعى الشرع إلى طمأنة الطائفة الدرزية، إلا أن دروز سوريا لا يزالون يشعرون بالقلق من تهميشهم أو تعرضهم للعنف على الرغم من تعهدات السلطات السورية الجديدة بحماية الأقليات.
وساعدت أعمال العنف التي وقعت خلال الأسابيع الماضية في شمال غربي سوريا هذه المخاوف، وكانت اشتباكات قد اندلعت على يد خلايا موالية للأسد هاجمت القوات الحكومية.
وعلى الرغم من تطمينات دمشق، فقد استهدف المتمردون السوريون السابقون الطائفة العلوية في أعمال عنف أدانها الشرع نفسه في وقت لاحق.
وقد سعت الخلايا الموالية للأسد على الأرجح إلى إثارة رد فعل طائفي عنيف، لكن بعض الجهات الفاعلة داخل الثوار وجدتها فرصة للتدخل والرد على ذلك، مما يدل على أن الحكومة المركزية الجديدة لا تسيطر على جميع الثوار السابقين.
في هذا السياق، قد توفر تعهدات إسرائيل بـ”حماية الدروز” بعض الطمأنينة لدروز سوريا، إلا أنها تنطوي أيضا على مخاطر كبيرة. فمن خلال تقديم نفسها كحامية للدروز، وضعت إسرائيل المجتمع الدرزي عن غير قصد في دائرة الاستهداف، إذ أثارت شكوكاً بأن بعض أفراد هذا المجتمع قد يفضلون الانحياز إلى إسرائيل على حساب الولاء لسوريا.
وقد دفعت سنوات الحرب الأهلية وانهيار السلطة المركزية بالدروز إلى الاعتماد على أنفسهم، ما أدى فعلياً إلى نشوء منطقة شبه مستقلة بحكم الأمر الواقع. وعلى الرغم من أن هذا المجتمع لم يُظهر أي رغبة في الاستقلال، فإن هذا الشكل من الحكم الذاتي أثار مخاوف من احتمال سعيهم إلى إقامة كيان منفصل.
وقد دحض زعماء الدروز باستمرار مثل هذه المزاعم، مؤكدين رفضهم القاطع لأي محاولات لتقسيم سوريا، وتمسكهم بوحدتها. وعلى امتداد المنطقة– سواء في إسرائيل، أو لبنان، أو سوريا– ظل الدروز مواطنين مخلصين في أوطانهم. حتى الشيخ طريف، الزعيم الروحي البارز لدروز إسرائيل، شدد على دعمه لوحدة سوريا عند استقباله وفد الدروز السوريين الزائر.
يتصاعد الغضب الشعبي في محافظتي درعا والقنيطرة جنوبي سوريا، بسبب استمرار الوجود الإسرائيلي في القرى القريبة من الحدود. فقد شهدت المنطقة مظاهرات احتجاجية، في مؤشر واضح على تبدّل المزاج العام.
ومما لا شك فيه أن إسرائيل فقدت جزءاً ملموساً من التعاطف الذي كانت قد راكمته خلال سنوات الحرب، عبر ما عُرف بعملية “الجار الطيب”، والتي نقلت بموجبها جرحى سوريين لتلقي العلاج في مستشفياتها.
وبادعائها حماية الطائفة الدرزية، ربطت إسرائيل الطائفة الدرزية بما يعتبره الكثيرون في سوريا مسعى إسرائيلياً مستمرا لضم أجزاء جديدة من البلاد.
وفي الأسابيع التي أعقبت سقوط الأسد، توغلت إسرائيل في جنوب سوريا وسيطرت على معظم المنطقة العازلة بين البلدين وتوغلت بضعة كيلومترات خارجها. وتقوم إسرائيل بشكل واضح ببناء خطوط دفاعية جديدة لا تبدو مؤقتة على الإطلاق، وقد أكد المسؤولون الإسرائيليون أنفسهم شكوك السوريين عندما قالوا إن إسرائيل ستبقى إلى أجل غير مسمى في المناطق التي استولت عليها داخل سوريا.
هدف إسرائيل
لا تبين إسرائيل نواياها بوضوح، ويمكن أن يُفسّر بعض من تحركاتها الرامية إلى تحييد التهديدات المحتملة من خلال الذهنية الأمنية المفرطة التي سادت بعد أحداث 7 تشرين الأول التي بدأتها حركة “حماس”.
فقد أنشأ “حزب الله” منذ فترة طويلة بنية عسكرية على الحدود، أبرزها شبكة خلايا من النخبة تُعرف باسم “ملف الجولان”، وهو ما يشكّل تهديداً حقيقياً، فقد يستغل “الحزب” حالة الفوضى القائمة لتنفيذ هجمات. كما أن المخاوف من وجود عناصر متطرفة ضمن صفوف قوات الرئيس الشرع تُعطي إسرائيل ذريعة إضافية لتبرير ما تصفه السلطات الإسرائيلية بأنه نهج أمني وقائي.
غير أن استمرار إسرائيل في شن غارات جوية داخل العمق السوري، ورفضها القاطع التعامل مع النظام السوري الجديد– حتى عبر قنوات غير رسمية– وسعيها إلى استقطاب الأقليات السورية، كل ذلك يشير إلى أن استراتيجيتها قد تتجاوز مجرد التحوط الأمني.
وبالفعل، ثمة بين المحللين الإسرائيليين من يرى أن إسرائيل تخشى أن يتحول النظام السوري الجديد إلى تابع فعلي لتركيا، استناداً إلى العلاقات التاريخية التي تربط الشرع بأنقرة. وقد جاءت الضربة الجوية الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت قاعدة جوية في ريف حمص، وسط مزاعم تفيد بأن تركيا قد تنشر قريبا منظومات دفاع جوي في القاعدة ذاتها.
ووفقاً لتقارير إعلامية إسرائيلية، فإن هذه الضربة حملت “رسالة” مباشرة إلى أنقرة، فيما يبدو كمحاولة أولية لكبح التوغل التركي في سوريا، على غرار ما فعلته إسرائيل في مواجهتها للنفوذ الإيراني.
إلا أن هذا التصور القائل إن سوريا ستتحول حتماً إلى “تابع” لتركيا، يبدو تبسيطا مفرطا للواقع المعقّد. فهو يتجاهل التوترات التي كانت قائمة بين الطرفين قبل سقوط الأسد، فضلاً عن مساعي الرئيس الشرع الأخيرة لبناء علاقات أوثق مع الدول العربية بهدف موازنة النفوذ التركي.
ومن المفارقات أن تبنّي إسرائيل نهجا عدائيا تجاه دمشق قد يفضي إلى نتيجة معاكسة لما تسعى إليه، إذ قد يدفع بالشرع إلى الارتماء أكثر في أحضان تركيا، بدافع الحاجة، خاصة في ظل سعيه لإعادة بناء القدرات العسكرية السورية.
وبدلا من تقويض النفوذ التركي في سوريا، قد تؤدي سياسات إسرائيل إلى زيادة اعتماد القيادة الجديدة في دمشق على أنقرة، وقد يكون هدف إسرائيل تأمين نفوذ على الحكومة السورية الجديدة، فمن خلال تصوير نفسها كـ”حامية للأقليات”، يبدو أنها تهدف إلى ضمان قدرتها على التأثير في مستقبل سوريا.
وفي بداية الأحداث السورية، اختارت إسرائيل إلى حد كبير التزام الحياد، وترك الصراع يتطور دون تدخل، رغم الدعوات حينها إلى التدخل، لا سيما عبر تحييد سلاح الجو التابع للأسد الذي اتُّهم بارتكاب جرائم حرب واسعة النطاق.
إلا أن هذا الموقف سرعان ما أصبح غير قابل للاستمرار، إذ أدركت إسرائيل أن القرب الجغرافي لا يمكن تجاهله، وأن الفراغ في السلطة لا يمكن أن يدوم طويلا.
وقد سارعت إيران و”حزب الله” إلى استغلال الفوضى، فتدخلا لدعم الأسد، وأقاما ممرا بريا يمتد من إيران إلى لبنان. ونتيجة لذلك، اضطرت إسرائيل إلى “اللعب في الوقت الضائع”، فشنت مئات الغارات الجوية داخل سوريا، وانتهجت سياسة رد الفعل وفق مبدأ “الضربات المتنقلة”.
كما أطلقت برنامج “الجيرة الحسنة”، الذي هدف إلى بناء علاقات مع فصائل المعارضة في الجولان السورية، في محاولة لردع أي هجمات محتملة على أراضيها.
وربما توصلت إسرائيل، ومن خلال هذه التجربة، إلى قناعة بأن عدم الانخراط لم يعد خيارا ممكنا، وكأنها تراهن اليوم على دعم الأقليات لإضعاف سلطة دمشق المركزية، وإقصاء سوريا كتهديد مستقبلي.
ويفسر هذا التوجه أيضا توسيع إسرائيل لما تصفه بـ”الضمانة الأمنية” لتشمل الأقلية الكردية. فقوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي يقودها الأكراد، تتمتع بموقع فريد يمكّنها من إقامة منطقة حكم ذاتي خاصة بها، ولا سيما أن الأراضي التي تسيطر عليها في شمال شرقي سوريا تعمل بالفعل ككيان شبه مستقل.
وقد تطمح “قسد” إلى إقامة “إقليم كردي سوري”، مشابه للإقليم الكردي المستقل في العراق. وتُعد “قسد” بالنسبة إلى إسرائيل ذات أهمية مزدوجة: فهي شريك محتمل في إضعاف دمشق، كما أنها ثِقل موازن للنفوذ التركي في المنطقة.
منطلقات خيارات إسرائيل ومزالقها
يفترض أن تستخلص إسرائيل العِبر من الحرب الأهلية السورية، إلا أنها تتبنى، كما يبدو، الدروس الخاطئة، بما يكشف عن فهم محدود لواقع سوريا. فبعد أكثر من عقد من النزاع الدامي، لم يعد لدى السوريين رغبة في تجدد العنف. ورغم أن الأقليات قلقة بشأن موقعها في سوريا المستقبل، وهي محقة في ذلك، فإنها لا تبدي أي نية لتأسيس كيانات مستقلة.
وهي تدرك تماما أن أي خطوة في هذا الاتجاه ستؤدي، على الأرجح، إلى إشعال فتيل نزاع جديد. فعلى سبيل المثال، تدرك “قسد” أن السعي نحو الاستقلال قد يستجلب تدخلا عسكريا مباشرا من تركيا– وهو ما يؤكد ما قلناه من أن استراتيجية إسرائيل قد تعود بنتائج عكسية، إذ من شأنها أن تعزز النفوذ التركي في سوريا بدلا من الحد منه.
وفي هذا السياق، تُطرح تساؤلات جدية حول مصداقية ما تصفه إسرائيل بـ”الضمانات الأمنية”. فعلى الرغم من تقديمها نفسها كحامية للأقليات، يبقى السؤال: هل هي مستعدة فعلا لتجاوز حدود الخطاب، والانخراط في صراع عسكري للدفاع عن الدروز أو الأكراد أو العلويين أو المسيحيين؟
حتى الآن، تفتقر تعهدات إسرائيل إلى أي خطوات عملية ذات دلالة. وحتى الآن، لم تُترجم هذه “الضمانات” إلى أفعال ملموسة. فإسرائيل ركزت في تحركاتها على استهداف قواعد عسكرية، دون أن تتخذ أي خطوات حقيقية لحماية الأقليات.
وعلى الرغم من وجود تعاطف شعبي داخل إسرائيل مع معاناة تلك الفئات، فإن المؤشرات على استعداد الإسرائيليين لتقديم تضحيات فعلية– خاصة بعد أكثر من عام من خوض حروب متعددة الجبهات– لا تزال شبه معدومة. لذا، فإن أي أقلية تعوّل على إسرائيل لضمان بقائها على المدى البعيد، قد تواجه خيبة أمل محتمة.
لقد دفعت عقلية ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول الحكومة الإسرائيلية إلى تبني استراتيجية أمنية ضيقة الأفق، همّشت فيها أدوات الدبلوماسية، وأغلقت الباب أمام مقاربات أكثر شمولاً كان من الممكن أن تتضمّن انفتاحا حذراً على النظام السوري، أو تنسيقا مع دول عربية أخرى للحؤول دون وقوع دمشق في دائرة النفوذ التركي.
ومن المؤكد أن النهج الدبلوماسي الأوسع قد ينطوي بدوره على خيبات، إلا أن التركيز الأحادي على المقاربة الأمنية يجعل من تلك الخيبات مسألة حتمية، بل وأكثر كلفة على المدى البعيد.
المصدر: موقع المجلة