تتوجه أم علاء (55 عاماً) إلى سوق الهال بالزبلطاني في العاصمة السورية دمشق برفقة أحد أبنائها يومياً، لتبيع ما تنتجه أرضها من خضار وتعتاش على ذلك منذ سنوات.
تكسب رزقها من هذه المهنة عبر بيع أفضل أصناف الخضراوات، لكنها تضر صحة كل من يشتري منها من دون أن يعلم. تعترف أم علاء بأنها تعتمد في سقاية أرضها على مياه الصرف الصحي، بعد أن كسرت أحد الأنابيب في مدينة دوما، لعدم وجود مياه للري ومحروقات للضخّ من الآبار.
وتبرر أم علاء ما تقوم به بعدم وجود أي مصدر رزق آخر تعيش منه هي وعائلتها، بعد وفاة زوجها خلال سنوات الحرب السورية: “أعرف أن سقاية الخضروات بمياه الصرف الصحي أمر خاطئ، ولكن إن لم أقم بذلك سأموت من الجوع، والناس ما عم يصير معها أي شيء”.
تتلفظ أم علاء بهذه العبارات بحزن لكنها مستمرة بهذا العمل منذ سنوات، ومثلها كثيرون في بغوطة ريف دمشق الشرقية وغيرها من المناطق السورية، حيث يعتمد المزارعون على مياه الصرف الصحي لري أراضيهم في بلدٍ يعاني حرباً منذ سنوات وعجزاً مائياً كبيراً.
رئة دمشق تسقى بالصرف الصحي
تعتبر الغوطة الشرقية رئة دمشق وسلتها الغذائية لاحتوائها الكثير من الأراضي المزروعة بالخضار والفواكه، التي كانت تقدر قبل سنوات الحرب بأكثر من خمسة ألاف هكتار، أما حالياً لا يوجد أي تقدير لهذه المساحات.
يوضح أحد المهندسين الزراعيين من مدينة دوما التابعة للغوطة الشرقية، أن عشرات المزارعين في المنطقة، يسقون ما يزرعونه من خضراوات وفواكه باستخدام مياه الصرف الصحي لعدم توفر المياه بشكل كافٍ، وكذلك قلة الكهرباء والمحروقات لضخ المياه من الآبار التي بقيت صالحة للاستخدام.
ويضيف أن “معظم الخضار في سوق الهال تسقى من الصرف الصحي، ووزارة الزراعة تعلم ذلك من دون أن تقوم بخطوات فعلية للتخلص من هذا الأمر”.
ويشير المهندس الزراعي الذي رفض الكشف عن اسمه، إلى أنه شارك في مسح أراضٍ في الغوطة الشرقية قبل عام، كان الغرض منه معرفة مساحة الأراضي المزروعة والحيوانات الموجودة هناك، قبل أن يتوصل إلى أن معظم المزروعات تسقى بمياه الصرف الصحي.
ويوضح أن هذا الأمر ينطبق على كامل الريف الدمشقي، الذي يغذي العاصمة بخزان من الخضار والفواكه من دون وجود أي رقابة على ذلك.
وكانت أراضي الغوطة تعتمد على نهري بردى والأعوج وبعض الينابيع، إضافة إلى المياه المعالجة في محطة عدرا، لكنها توقفت عن العمل خلال سنوات الحرب.
ويبين المهندس الزراعي أن مياه الصرف الصحي يمكن استخدامها لسقاية الأشجار غير المثمرة، أو التي تستخدم للاخشاب والحطب فقط، أو لأغراض الزينة والمحاصيل العلفية، أما الخضار وخاصة التي تؤكل نيئة فيُمنع سقايتها بمياه الصرف الصحي لأنها خطرة جداً على الصحة.
ظاهرة في مناطق سورية
لا تقتصر سقاية المزروعات بالصرف الصحي على ريف دمشق؛ بل تنتشر هذه الظاهرة في بعض مناطق العاصمة السورية؛ مثل مزارع العدوي التي تروى من مياه نهر بردى وفروعه المليئة بالصرف الصحي.
وفق دراسة أجراها مدير عام حوض بردى والأعوج سابقاً جميل فلوح فإن 400 ألف متر مكعب من مياه الصرف الصحي في دمشق، تصب في الأقنية المائية التي يستعملها المزارعون للري بطرق مخالفة، وخاصة فروع نهر بردى التي تستخدم لسقاية مساحات واسعة من الأراضي.
ويتكرر السيناريو نفسه في حمص وخاصة في ريفها الشمالي باتجاه حماة، حيث يستخدم مزارعو القرى الممتدة على هذا الخط مثل تلبيسة وجبورين والقصير وربلة وبساتين الوعر؛ مياه نهر العاصي وتفرعاته التي يصب فيها الصرف الصحي لسقاية مزروعاتهم التي تباع في حمص وحماة.
رامي أحد المزارعين في حمص، يسقي أرضه من أحد تفرعات نهر العاصي، ويبيع ما ينتجه في أسواق المدينة، يقول إنه حاول الاعتماد على مياه الآبار لكنها مكلفة جداً ولا يمكن تأمين المحروقات والكهرباء باستمرار لاستخراجها وضخها.
بدوره يعترف مزارع يدعى سعيد بسقاية أرضه بمياه صرف صحي، ويحمل مديرية الصرف الصحي والبيئة مسؤولية هذا الواقع نتيجة عدم معالجة مشاكل الصرف الصحي الذي يحوّل إلى نهر العاصي.
أضرار صحية كبيرة
توصلت إحدى الدراسات قبل سنوات، والتي أجريت على عينات من الخس والنعنع التي تزرع بريف دمشق، إلى أنها تحتوي على نسبٍ عالية من مواد خطيرة مثل الرصاص.
وذكرت الدراسة التي أجريت في مركز الدراسات البيئية؛ أن نسبة الرصاص في العينة بلغت 24 ضعفاً من الحد المسموح به من قبل منظمة الصحة العالمية.
كما احتوت العينة على معادن ثقيلة مثل الكادميوم والزئبق بالإضافة إلى النتريت وغيرها من المواد الخطيرة على الصحة، وخاصةً أنها أعلى من النسب المحددة عالمياً.
ويوضح الطبيب سليم علي (أخصائي داخلية) أن الخضار التي تسقى من الصرف الصحي، تحتوي على نسب من الرصاص، الذي يسبب الإصابة بالشلل ويساهم بتثبيط الناقلية الكهربائية للأعصاب، وقد يؤدي تراكمه أيضاً في بعض مناطق الجسم إلى الإصابة بمرض فقر الدم الحاد.
كما أن مادة الكادميوم التي تحتويها هذه الخضار تعتبر مسرطنة، وتسبّب هشاشة العظام وتشوهات عظمية حسب سليم، الذي يؤكد أن الزئبق عنصر سام بالنسبة للجهاز العصبي والهضمي وجهاز المناعة، ويسبب أضراراً بالنسبة للرئتين والكليتين.
كما ان استهلاك هذه الخضار، دائماً بحسب سليم، يسبب أيضاً حمى التيفوئيد والليشمانيا بمرور الوقت، مما يتطلب معالجة هذه الظاهرة على الفور.
قلة الكهرباء، المحروقات وارتفاع أسعارها
ترجع أم علاء اعتمادها على مياه الصرف الصحي لسقاية المزروعات إلى قلة المياه في المنطقة، إلا أنها أكدت وجود آبار يمكن استخدامها للسقاية، لكنها دون فائدة لعدم وجود كهرباء.
أما المزارع عبد الله فقد اشترى مولداً كهربائياً من أجل المساعدة بعمليات ضخ المياه من الآبار، لكنه توقف عن استخدامه بسبب نقص المحروقات وارتفاع أسعارها في السوق السوداء.
وتعرضت العديد من الآبار إلى التدمير خلال سنوات الحرب بحسب المزارع كريم، الذي يشير إلى أن الاعتماد على مياه الصرف الصحي غير مكلف وسط الواقع الاقتصادي المتردي في البلد، ويضيف “مافي كهرباء وأسعار البنزين والمازوت غالية، والحل الصرف الصحي حتى نزرع ونعيش”.
وتعاني معظم المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية من انقطاع الكهرباء لساعات طويلة تصل إلى أكثر من 20 ساعة، في ظل ارتفاع أسعار المحروقات وندرتها.
اعتراف حكومي
يعترف مدير زراعة ريف دمشق عرفان زيادة في حديث لوسائل إعلام سورية، بوجود مزارعين يقومون بري أراضيهم بالصرف الصحي.
ويوضح زيادة أن أراضي الغوطة كانت تعتمد على نهري بردى والأعوج وبعض الينابيع للري، كما كانت تسقى من المياه المعالجة في محطة عدرا و”منذ بداية الحرب تعرضت معظم قنوات وآبار الري للتخريب”.
بالنسبة للحلول ومعالجة الأمر يقول زيادة: “يتم تنظيم محاضر ضبط خصوصاً في دوما وداريا وتتراوح عقوبتها ما بين الغرامة المالية والسجن، والمديرية تعمل على إعادة تأهيل محطة عدرا وفق الإمكانات المادية المتاحة”.
هنا يشير مدير عام الشركة العامة للصرف الصحي في محافظة دمشق “بسام عسيكرية” إلى أن محطة عدرا تعالج حالياً 100 ألف متر مكعب يومياً، أي ربع طاقتها بعد البدء بعملية إعادة التأهيل.
أما مدير الإنتاج النباتي في وزارة الزراعة أحمد حيدر؛ فيحمّل لجان المناطق مسؤولية ذلك، كونها منوطة بتنظيم المحاضر ومتابعة الخطة الزراعية. وينصّ المرسوم رقم 14 بفقراته (أ وب) الصادر في العام 2017 على أن “كل مستثمر يخالف أحكام الخطة الإنتاجية الزراعية، فيما يخص زراعة المحاصيل والخضراوات، إضافة إلى إتلاف الخضار والمزروعات المروية من مياه ملوثة مباشرة يعاقب بالغرامة من 6000-10000 ليرة سورية للدونم الواحد”.
وذكر مدير زراعة ريف دمشق عرفان زيادة أن المديرية نظمت 52 محضر ضبط خاص باستخدام مياه الصرف الصحي لسقاية المزروعات خلال العام 2020في مناطق داريا والتل وقطنا والغوطة ودوما في ريف دمشق، بمساحة 769 دونما مزروعة بالعديد من الخضار مثل الباذنجان والملوخية والذرة.
أما خلال العام 2021 فقد نُظمت العديد من المحاضر في مناطق قطنا ودوما والغوطة وقدرت المساحة بـ51 دونما مزروعة بـالملوخية والكزبرة والذرة والفصة والخيار..
المصدر: موقع درج