قبل شهرين داهمت دورية أمنية مكتب التاجر السوري (م.أ) في مدينة حمص السورية بشكل مفاجئ ودون أي سابق إنذار، وذلك في أثناء الحملات التي شهدتها عدة محافظات سورية، واستهدفت حينها مكاتب تصريف العملة، وأخرى تختص بالحوالات الداخلية والخارجية ومحال بيع الذهب والأحجار الثمينة.
وللوهلة الأولى أعتقد التاجر أن الدورية لا تختلف عن غيرها من الدوريات الأمنية التي تصول وتجول في المحافظات وأحيائها بين بين حين وآخر، ليتفاجأ بأنها تتبع لما يسمى “المكتب السري”، وهو الأمر الذي أخبره به أحد العناصر من فرع “أمن الدولة”، الذين كانوا ضمن القوات المرافقة.
“اتهمت بتصريف القطع الأجنبي بطريقة غير مشروعة، والمحصلة أنني أجبرت على دفع مبالغ مالية بالدولار والليرة السورية. 25 ألف دولار ومليونا ليرة سورية”. يقول التاجر الذي طلب عدم ذكر اسمه لضرورات أمنية في تصريحات لموقع “الحرة”.
ويضيف: “بعد وصول الدورية وفرض طوق أمني في محيط محلي التجاري دخل إلي أحد العناصر وعرّف نفسه بأنه يتبع لفرع أمن الدولة الأمني، وقال لي بالحرف: عطي للشباب المصاري وفرطها بأرضها”.
وتابع العنصر الأمني، بحسب حديث التاجر: “الدورية قادمة من العاصمة دمشق، وتتبع للمكتب السري. غير ربك ما بحلّها بطريقة أخرى”.
ويشير التاجر إلى أن الحادثة التي تعرض لها في مدينة حمص وسط البلاد تعتبر واحدة من مئات الحوادث التي يتعرض لها التجار. ليس في الوقت الحالي فحسب، بل تمتد إلى السنوات العشر الماضية، وقبلها أيضا بسنوات لكنها كانت بوتيرة أقل.
وباتت المداهمات المذكورة التي تعرف بـ”مداهمات المكتب السري” هاجسا كبيرا يخشاه جميع التجار، الكبار منهم والصغار، في مختلف المحافظات السورية، وبالأخص العاصمة دمشق وحلب التي تعرف بـ”العاصمة الاقتصادية لسوريا”.
وتتضارب الجهة الرئيسية التي يتبع لها “المكتب السري”، والذي سبق وأن أعلنت حكومة نظام الأسد إلغاءه في عام 2009 بعد تبعيته آنذاك لـ”إدارة الجمارك العامة”، “لكن بشكل صوري وعلى الإعلام فقط”، بحسب ما تقول مصادر مطلعة من العاصمة دمشق في تصريحات لموقع “الحرة”.
“إغلاق وعزوف عن التجارة“
وتعاني سوريا من أزمة اقتصادية غير مسبوقة، ألقت بظلالها مؤخرا على سعر صرف الليرة السورية في سوق العملات الأجنبية، فضلا عن ارتفاع معدلات التضخم بأشواط كبيرة، وهو الأمر الذي انعكس على طبيعة الحياة اليومية للمواطنين وعلى التجار أيضا، الذين فضلوا الاستمرار بتجارتهم داخل المحافظات السورية الخاضعة لسيطرة النظام السوري.
ويقول اقتصاديون وخبراء إن حكومة النظام اتجهت، قبل سنوات، للبحث عن موارد لرفد خزينتها المتهالكة، سواء من جيوب التجار في المحافظات السورية أو من خلال اتباع طرق التفافية على العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة عليها.
وبوتيرة متكررة تعلن حكومة نظام الأسد عن مداهمات أمنية في دمشق وباقي المناطق السورية، وتقول إنها تستهدف تجار السوق السوداء والمضاربين على العملة السورية. لكن ذلك يأخذ أبعادا “خفية” تصب في غايات أخرى، بحسب خبراء اقتصاد سوريين.
وقبل أيام، وبشكل مفاجئ، عبر موقع التواصل “فيسبوك” أعلن واحد من أشهر محال الحلويات في مدينة حلب توقفه عن العمل بالكامل، عازيا الأمر إلى مطالبته بـ”الإتاوة” من جهة لم يحددها.
وقال: “زبائننا الكرام: أعلن إغلاق المنشأة الحضارية محل لاغراند حتى إشعار آخر وذلك بسبب مطالبتي بإتاوة ومبلغ مالي كبير جدا مقابل عدم تشميع وإغلاق المنشأة من قبل التموين والصحية ظلما وعدوانا”.
ونشر المحل التجاري صورة لموظفيه بعد الإغلاق، لكنه حذفها بعد 24 واستطرد معلنا عودته للعمل، شاكرا محافظ حلب، حسين دياب لتدخله في الأمر.
وتوضح مصادر إعلامية من مدينة حلب أن دوريات من “المكتب السري” كانت قد داهمت محل الحلويات قبل يوم من إعلانه الإغلاق، وفرضت عليه دفع مبالغ مالية بذريعة ارتكاب مخالفات والتأخر عن دفع الضرائب الرسمية.
وتشير المصادر التي فضلت عدم ذكر اسمها إلى أن دوريات المكتب المذكور يعاني منها غالبية التجار في مدينة حلب، وخاصة أصحاب المحال التجارية الكبيرة والورشات الصناعية، وهو ما أدى مؤخرا إلى توتر، إثر حملات استهدفت بحسب ما ذكرت وسائل الإعلام الرسمية “البضائع المهربة من تركيا”.
وبحسب المصادر اضطر بعض التجار في مدينة حلب لإجراء عمليات تصفية كاملة لتجاراتهم، بينهم التاجر جوزيف فنون، الذي تعرضت مصالحه التجارية في حي العزيزية، مطلع العام الحالي، لمداهمات من قبل دوريات “المكتب السري”، بعد رفضه تقديم “إتاوات مالية”.
وتحدثت المصادر ذاتها عن وقوع حوادث مماثلة بعدة محال تجارية في بعض أحياء المدينة. وكانت الغايات بمجملها تحصيل مبالغ مالية كبيرة، دون أي تهم واضحة أو حتى مبررات قانونية.
ما هو “المكتب السري”؟
المداهمات التي ينفذها عناصر المكتب المذكور تعود إلى مطلع عام 2011 وقبل ذلك بسنوات أيضا، وحينها تحدثت مصادر إعلامية أنها طالت عشرات التجار في مدينة دمشق وآخرين في حلب وحمص.
ولا تقتصر تلك الممارسات على مجال تجاري دون غيره في سوريا، بل تشمل جميع المصالح، من تجار كبار أو حتى أصحاب المصانع والأشخاص النافذين اقتصاديا في البلاد، وأصحاب المستودعات الكبيرة.
وبحسب ما تحدث موقع “الحرة” مع تجار في مدينتي حمص ودمشق فإن عناصر دوريات “المكتب السري” يتمتعون بنفوذ كبير، وهو ما يجعل من الصعب التفاوض معهم في أثناء استهدافهم لأي تاجر أو منشأة.
وهناك روايتان بشأن تبعية “المكتب السري” الأولى هي ارتباطه بـ”الإدارة العامة للجمارك السورية”، في حين تذهب الرواية الثانية إلى ما هو أبعد من ذلك، بأنه يرتبط مباشرة بـ”القصر الجمهوري”.
ويقول تاجر أجهزة إلكترونية في العاصمة دمشق في تصريحات لموقع “الحرة”: “أقل التهم الجمركية التي يوجهها يفرضها عناصر المكتب السري يعني دفع ملايين الليرات السورية وعشرات آلاف الدولارات”.
ويشير التاجر، طالبا عدم ذكر اسمه لضرورات أمنية، إلى أن أحد التجار في دمشق كان قد اضطر في الأسابيع الماضية إلى إغلاق صالاته ومستودعاته وسط العاصمة، بعد سلسلة مداهمات ومحاولات ابتزاز تعرض لها من “المكتب السري” بغرض حصولهم على “إتاوات غير مشروعة”.
وحصل موقع “الحرة” على اسم التاجر الكبير، لكنها تتحفظ عن ذكر اسمه.
ويتابع التاجر: “المداهمات نتعرض لها منذ سنوات، لكن وتيرتها ازدادت في العامين الماضيين، بالتزامن مع تدهور قيمة الليرة السورية، وما رافق ذلك من أزمات اقتصادية متتالية شهدتها المحافظات السورية”.
“تحت غطاء أمن الدولة“
الاستشاري الاقتصادي السوري، يونس الكريم يقول إن “المكتب السري” يتبع مباشرة إلى “القصر الجمهوري” بالصورة العمومية، لكن مهامه ومداهماته يتم تنفيذها “تحت غطاء فرع أمن الدولة”.
وفي السابق أي قبل أكثر من عشر سنوات كان “المكتب” بيد “الإدارة العامة للجمارك” لكن بشكل صوري. ويضيف الكريم في تصريحات لموقع “الحرة”: “قراراته وأعماله كانت تخرج بأوامر من الضابط المسؤول عنه. سابقا كان بيد حسن مخلوف، والذي اتهم فيما بعد بقضايا فساد”.
ويوضح الاستشاري الاقتصادي: “المكتب السري مثل أي جهة، فهو عبارة عن أداة من أدوات القصر الجمهوري لإدارة الملف الاقتصادي في البلاد. حاليا يعمل بتنسيق مع رجلي الأعمال السوريين، حسام القاطرجي وخضر طاهر الملقب بأبو علي خضر”.
وتردد اسم هذين التاجرين كثيرا في السنوات الماضية كتجار “حروب”، ولم يسبق وأن ورد ذكرهما على الساحة الاقتصادية لسوريا في السنوات التي سبقت أحداث الثورة السورية في عام 2011.
ويتمتع هذان الرجلان أيضا بنفوذ أمني داخل مدينتي حلب والعاصمة دمشق، حتى بات اسمهما يطغى على حساب شريحة واسعة من التجار في المدينتين المذكورتين.
وسبق وأن وجه رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية، فارس الشهابي اتهامات متعددة لرجل الأعمال “أبو علي خضر”، بينها أنه يفرض “إتاوات” على المصانع وأصحاب معامل البلاستيك في حلب.
ووصفه خلال لقاء له عبر قناة “الإخبارية السورية”، في فبراير 2019 بأنه “لص ومهرب ومجرم سابق”، معتبرا أن “مثل هؤلاء أصبحت لديهم ميليشيات ولا تقوى الجمارك على مواجهتهم”.
“نهب الأموال فقط“
في سياق ما سبق، يقول فادي الرباط، عضو فريق “صوت العاصمة” وهي شبكة محلية تغطي أخبار دمشق إن “المكتب السري” يتبع لجهة استخباراتية في سوريا لا تعرف هويتها بالتفصيل.
ويضيف في تصريحات لموقع “الحرة”: “عمله الأساسي نهب الأموال بطريقة مباشرة وسهلة من التجار وأصحاب المستودعات وغيرهم ممن يتصدرون ويعملون في الساحة الاقتصادية”.
وعمل المكتب المذكور يعود إلى سنوات طويلة في البلاد، وبحسب الصحفي السوري: “تشمل أعماله جميع المناطق وليس كما هو شائعا أنه يتركز في العاصمة دمشق وأسواق الحريقة والصالحية والحمرا وغيرها”.
ويوضح الرباط: “مداهمات المكتب تكون مبنية على معرفتهم بشكل مسبق بالتاجر المستهدف وكميات البضائع وتفاصيل أعماله التجارية ومخرجات أمواله. بعد ذلك يهددونه بالذهاب إلى المحاكم الاقتصادية أو الدفع المباشر دون أي مساءلة قانونية”.
ويتابع الصحفي السوري: “هناك بعض التجار باتوا يصرفون رواتب شهرية لهذا المكتب وعناصره، كإتاوة مالية لعدم التعرض لهم بالمطلق”.
من جانبه تحدث الاستشاري الاقتصادي، يونس الكريم بناء على “معلومات موثوقة” بحسب قوله، عن ارتباط ما بين “المكتب السري” وما يسمى “تيار أسماء الأسد”.
ويقول: “عمله ليس الإتاوات فقط إنما الهدف هو إجبار التجار على أن يكونوا ويأتمروا بأمر أسماء الأسد، أي يتبعون لها بالعلاقات والولاء ويدعموا خططها الاقتصادية”.
ومن مهامه أيضا، بحسب الكريم: “ترتيب البيئة الاقتصادية وإعادة خلق اقتصاديين لهم الولاء لتيار أسماء الأسد”.
وفي تصريحات سابقة لموقع “الحرة” في ديسمبر 2020 كانت ثلاثة مصادر مطلعة قالت إن “أسماء الأسد وهي زوجة بشار الأسد، شكّلت منذ تلك الفترة لجنة تحمل اسم (استرداد أموال الفاسدين وتجار الأزمة)، ولهذه اللجنة هدف واحد هو تحصيل الأموال التي جمعها عدد من المسؤولين ورجال الأعمال المصنفين على تجار الحرب، وذلك ضمن خريطة مرسومة”.
الخريطة المرسومة التي تسير فيها اللجنة والتي شكّلتها أسماء الأسد تندرج ضمن عمليات وصفتها المصادر بـ “التسوية”، والتي طالت عشرات من رجال الأعمال، كان على رأسهم رامي مخلوف، ومؤخرا محافظ ريف دمشق، علاء منير إبراهيم.
وتسير الحملة التي تقودها “لجنة استرداد الأموال” بقيادة أسماء الأسد بشكل تدريجي وعلى فترات زمنية متقاربة، وهو ما أظهرته الأشهر الماضية، من عمليات حجز احتياطي جاءت بشكل تراتبي، وعلى فترات متقاربة.
المصدر:موقع الحرة