وسط حالة من الذهول العام، لانهيارها المتواصل بشكل غير مسبوق، فقدت الليرة السورية أكثر من 6% من قيمتها، الأحد، أي ما يُعادل ثلاثة أضعاف خسارتها اليومية المعتادة في الأسابيع الأخيرة، ليسجل سعر الصرف 882 ليرة سورية للدولار الواحد بزيادة أكثر من 50 ليرة عن سعر الافتتاح ضمن التداولات التجارية العامة في سوريا. وسجلت تداولات الإثنين سعراً قياسيا جديداً بـ885 للشراء و895 ليرة للمبيع.
وهذه العتبة السعرية الجديدة ليست تفصيلاً، لا لأنها الأعلى في تاريخ سعر الصرف حتى الآن، وإنما لأنها للمرة الأولى تتجاوز ضعفي سعر الصرف الرسمي بحسب المصرف المركزي السوري والبالغ 435 للدولار الواحد.
وبالنظر إلى أن وتيرة الانهيار تصاعدت بشكل كبير بعد الإعلان عن المرسوم الجمهوري بزيادة الرواتب في 21 تشرين ثاني، وفي ظل امتناع النظام عن اتخاذ أي إجراء أو تدخل فاعل للحد من التدهور، فقد بات من شبه المؤكد أن النظام يرعى بشكل ما هذا الانهيار، أو على الأقل لا يبدي أي ممانعة للحد منه حاليا. إذ سجّلت الليرة في تشرين الثاني/نوفمبر أكبر خساراتها، لتفقد ما يزيد عن 20% من قيمتها.
ومن شأن ارتفاع سعر صرف الدولار أن يخفض من القيمة الفعلية لكتلة الرواتب المستحقة لأكثر من مليون ونصف مليون عامل، مدني وعسكري. وتقدر تلك الكتلة وفق سعر صرف افتراضي بـ500 ليرة سورية بملياري دولار سنوياً، ويمكنها أن تنخفض إلى مليار دولار في حال وصول الدولار إلى ألف ليرة.
كما من شأن خفض قيمة الليرة خفض التزامات النظام العامة، وهو ما حدث فعلياً لقيمة الموازنة لعام 2020 التي انخفضت من 7 مليار دولار لحظة إعدادها إلى 6 مليار دولار أثناء مناقشتها، إلى 4.5 مليار دولار عند إقرارها قبل يومين. وهي بذلك تُكافئ موازنة سوريا لعام 1998، وهي مرشحة للهبوط إلى 4 مليارات دولار في حال ارتفاع سعر صرف الدولار إلى ألف ليرة.
وفي المقابل، يبدو انخفاض قيمة الليرة كمقدمة لإلغاء أي شكل من أشكال الدعم الاجتماعي الذي لم يبق منه سوى الخبز، في حين يعتبر النظام أن نفقات وزارتي الصحة والتعليم من أبواب الدعم الاجتماعي، ويسعى إلى التقليل منها، تمهيداً لإلغائها.
وتأكيداً لذلك، يتعامل النظام مع كل مفاعيل ارتفاع سعر الصرف غير الرسمي كأمر واقع، بما يوحي أنها حالة غير قابلة للارتداد، أقله في الوقت الحاضر، مكرسا حالة “الدولرة” السائدة في البلاد، والتي تنعكس لحظياً على تغير الأسعار بما يتناسب مع ارتفاع سعر الصرف اللحظي.
وفي سياق تكريس “الدولرة” وتحرير الأسعار أعلن النظام عن اتفاق مع غرف التجارة بإصدار نشرات نصف شهرية لأسعار السلع الأساسية يراعي فيها تقلبات سعر الصرف، مؤكداً في الوقت ذاته عن نيته إدراج كثير من السلع الأساسية في نظام التقنين وبيعها بموجب البطاقة الذكية، ومنها السكر والرز. ويشير ذلك إلى أن تحرير أسعار تلك المواد، سيرفع سعرها إلى الضعف في السوق المحلية.
وفي المقابل، وكنوع من الاحتياط والأمان اليومي لتلك التقلبات السريعة، يعمد كبار التجار إلى تحديث أسعار السلع يومياً بأعلى من القيم اللحظية للدولار بحدود 50 ليرة سورية. ويقتصر دور النظام على تسيير دوريات تموين مكثفة تستهدف صغار الباعة وتجار المفرق، وتنحصر أدوارهم في مقارنة أسعار المبيع مع أسعار فاتورة الشراء، ما يضع جميع تجار المفرق أمام احتمال الخسارة عند البيع وفق الفواتير القديمة، أو تحت رحمة المخالفات التموينية المرهقة غير العادلة.
ولم ينجح صغار التجار بالإفلات من دوريات التموين عبر إغلاق محلاتهم كما جرت العادة، إذ بادرت تلك الدوريات إلى مخالفة المحلات المغلقة في إشارة رمزية قد تتخطى الجانب التمويني إلى البعد السياسي خشية تطور حالات الإغلاق إلى أي نوع من أنواع الإضراب.
في هذه الأجواء، وخلافاً للجمود في حركة السوق المرافق لارتفاع سعر الصرف، شهدت أسواق العاصمة دمشق حركة تجارية غير معتادة، تجلت بشراء المواد الغذائية وبعض المستلزمات الضرورية، في ظل قناعة بأن “اليوم أرخص من الغد”. ويشير ذلك إلى إحساس عام باستمرار الهبوط، وانعدام الوثوق بأية فاعلية للنظام على هذا الصعيد.
ويأتي انهيار الليرة السورية في ظل جو من الغضب والإحباط الشعبي العام، وتحميل النظام بأفراده وسياساته وتحالفاته الداخلية مع مافيا المال وأمراء الحرب مسؤولية الخراب الحالي، والأزمات المتراكبة ومنها أزمة الغاز الحادة التي يعيشها السوريون حالياً، وتذكرهم بأزمات العام الماضي.
وكان الإحباط قد انتشر بين الموظفين، فور استلامهم لأول راتب بعد الزيادة، واكتشافهم أنها لا تتجاوز فعلياً 12 ألف ليرة (13 دولاراً فقط لا غير)، والباقي يتوزع بين الضرائب والتأمينات. تلك الزيادة الرقمية التي حصلوا عليها هي أقل بكثير من خسارتهم في فوارق الأسعار نتيجة الانخفاض المستمر في قيمة الليرة.
ويبدو أن رعاية النظام لانهيار الليرة ليست فعلاً اختيارياً، بل خطوة إجبارية في ظل تفاقم أزمة المصارف اللبنانية وما نتج عنها من إغلاق أهم مصادر القطع الأجنبي. ويربط البعض سرعة انهيار الليرة السورية بمحاولات أطراف لبنانية موالية للنظام شراء الدولار من سوريا، بالعملة السورية، وتحويلها إلى لبنان، في مسار معاكس لحركتها خلال السنوات الماضية.
ومع غياب أي مؤشرات فعلية توحي بقدرة النظام على كبح الانهيار عند عتبة يرغبها فإن جميع الدلائل تشير إلى تجاوز المعادلة المالية حدود الضبط الأمني وانكشاف ألاعيب النظام السابقة واستنفاذ كل مقومات الاستقرار الاقتصادي والمالي، ما يضع مصير السوريين والاقتصاد السوري والليرة في خانة المجهول.
المصدر: صحيفة المدن