يضحك خالد (اسم مستعار) (34 سنة) بحرقة وهو يتحدث عن حالة سوق السمك في مدينة طرطوس الساحلية، ويقول “السوق يشكو أساساً من الكساد بسبب ارتفاع الأسعار، والآن تأتي حادثة تسرب الفيول في بانياس”.
يسهب الشاب في الحديث عن سوء الأحوال الاقتصادية، وكيف تأثر الصيادون كغيرهم من أصحاب المهن جراء تسرّب الفيول إلى مياه البحر، مشيراً إلى أنّ السلبية في تعامل الأهالي مع حادثة التسرب مردّه لكثرة المشكلات والأزمات المتتالية.
يصمت قليلاً قبل أن يكمل، “ما ضل إلا البحر يخربوه… الجميع يقولون نحن تعودنا، لكن المشكلة أن آثار النفط الذي وصل للبحر ستبقى لسنوات، حتى أولادنا سيعانون من هذا التلوث”.
كان خالد شاهداً كغيره من المواطنين في المدينة على حادثة تسرب مادة الفيول من “محطة بانياس الحرارية لتوليد الكهرباء” التي تهدد شاطئ مدينته الساحلية في 23 آب/ أغسطس 2021.
ما يزيد الأمر تعقيداً هو تعامل سلطات المحطة الحرارية مع الحادثة، فمنذ الساعات الأولى لحدوث التسرب قلّلت الحكومة السورية من خطورته عبر حملة دعائية مضادة مفادها بأن الأمر بسيط، في الوقت الذي كان الأهالي يرون بقع الزيت الداكنة وهي تصبغ مياه البحر باللون الأسود.
نكشف في هذا التحقيق ومن خلال ما وفرته المصادر المفتوحة من صور وفيديوات وصور الأقمار الاصطناعية، حقيقة التلوث وحجمه وانتشاره، وجوانب من أسبابه، وعبر مقابلات حصرية مع خبراء ومهندس متخصص من المحطة نفسها، وكيف وجدت كميات ضخمة من الفيول كانت في أحد خزانات المحطة الحرارية طريقها إلى عمق البحر دون عوائق حتى أصبحت بعمق 5 كم خلال 24 ساعة فقط؟
سيترك التلوث هذا أثرا كبيراً على البيئة البحرية الغذائية والحيوانية، وسيمتد الأثر لسنوات، يقول خبير بيئي لفريق التحقيق.
شواطئ سوداء
يوم الاثنين، 23 آب/أغسطس 2021، بدأت بقع زيت سوداء تصل إلى شاطئ مدينة بانياس الساحلية وطغى اللون الأسود عليه، وبدأ الناشطون والصفحات الإخبارية التقاط الصور، وتزامن ذلك مع إطلاق مسؤولي المحطة الحرارية لتوليد الكهرباء في بانياس تصريحات عن حدوث تسرب في أحد خزانات الفيول (زيت الوقود) في المحطة ووصول كمية منه إلى البحر، وتمحورت تصريحات مسؤولي المحطة ووزير الكهرباء، غسان الزامل، حول سيطرتهم على التسرب والاستجابة “الحكمية” السريعة، والأهم كان تأكيد المسؤولين أن الكمية التي وصلت إلى مياه البحر قليلة وغير خطيرة، لكن، وعلى الجانب الآخر جاءت فيديوهات وصور من شواطئ اللاذقية لتقول شيئاً آخر، فالكمية الواصلة إلى البحر ليست قليلة بل هي ضخمة بحيث امتدت من شواطئ بانياس إلى شواطئ جبلة في اللاذقية في أقل من 24 ساعة، وهي مسافة تصل إلى 20 كلم.
ماذا حدث يوم الاثنين؟
يعود سبب التسرب، بحسب مسؤولي المحطة، إلى حدوث شق في أسفل أحد خزانات الفيول الخمسة، ما أدى إلى تدفق الفيول في الحوض المحيط بالخزان.
ويروي أحد مهندسي المحطة لمعدي التحقيق، (طلب عدم التصريح عن اسمه لأسباب أمنية) كيف أن الفيول المتسرب ملأ الأحواض بسرعة كبيرة، وشكل نافورة عند الخزان المتضرر، ما يدل على أن الشق كان كبيراً.
ويضيف المهندس، أن الجميع فوجئوا لأن الخزان كان ممتلئاً، مؤكداً أن المحطة تشكو منذ سنوات من نقص دائم بالفيول، وبالتالي امتلاء الخزان من دون معرفة معظم موظفي المحطة بدا مستغرباً.
وعن إجراءات الأمان التي تُتخذ عادة عند حدوث تسرب في أحد الخزانات لأي سبب، يقول المهندس “إن الخزانات محاطة بأحواض اسمنتية ومن المفروض بحال حدوث تسرب أن تمتلك هذه الأحواض القدرة على استيعاب الكمية المتسربة لحين إعادة شفطها”.
ويتابع، “الفيول تسرب لأن جدران الأحواض مهدمة في جوانب عدة، وبالتالي لم تقم بمهمتها الأساسية باحتواء الفيول الذي سرعان ما تسرب إلى خارج الأحواض، وملأ المناطق المحيطة وصولاً إلى البحر”.
وعن الكمية الواصلة إلى البحر، يؤكد المهندس أنها كبيرة ووصلت إليه من طريق أقنية التصريف التي تصب بالبحر، وعندما سألناه عن إمكانية إغلاق هذه الأقنية لمنع وصول الفيول للبحر، أكد أنه يمكن إغلاقها، إلا أن الاحتمال الأرجح، بحسبه، هو تركها مفتوحة عمداً لتصريف الفيول بدلاً من إغراق المحطة.
“لم تكن ثمة وسيلة لإيقاف التسرب… لقد سمحوا للفيول بالوصول إلى البحر بدلاً من إغراق المحطة”، ويشير إلى حادثة تسرب بسيطة قبل أيام من حدوث التسرب، إذ وصل الفيول وقتها إلى البحر من طريق أنابيب التصريف.
فساد وإهمال و”النفط” تتنصل
مثل هذه الحوادث تعرضت لها دول عدة وكانت شفافة في التصريح عن السبب والكميات المتسربة ومعالجة الآثار، ولكن السلطات السورية أصرت على الإنكار بل لجأت إلى مروياتها عن المؤامرات والمكائد، إلى حد إطلاق تصريحات غير منطقية ومضحكة حول صور الأقمار الصناعية التي أظهرت حجم التسرب بأنها مفبركة، وأن منشأها إسرائيلي كما قال المدير العام للمؤسسة العامة لتوليد الكهرباء، محمود رمضان، في لقاء على قناة الإخبارية السورية في 1 أيلول/ سبتمبر 2021، إذ أوضح أن الصور المنتشرة “مزيفة” وأن مصدرها صحيفة إسرائيلية، ونفى في المقابلة وصول الفيول المتسرب إلى شاطئ جبلة.
لا تغادر كلمتا الفساد والإهمال جميع من تحدثنا معهم حول حادثة التسرب، ويقول الشاب خالد أن التسرب شكل صدمة للمسؤولين في المحطة وفي وزارة النفط، وتساءلوا عن سبب وجود أكثر من 16000 طن من الفيول في الخزان، أما الصمت المطبق الذي تعاملت به وزارة النفط فيما يخص الحادثة، فكان لافتاً.
تنصلت وزارة النفط من أي مسؤولية كما استنكفت عن إطلاق أي تصريح، ويؤكد خالد وجود مراسلات بين وزارتي النفط والكهرباء، حيث تنصل وزير النفط من أي مسؤولية، وأكد في المراسلات أن مسؤوليات وزارته توقفت عند توفير كميات الفيول المطلوبة من وزارة الكهرباء لمحطة بانياس، بغض النظر عن تخزينها أو استعمالها في إشارة واضحة لعدم معرفته بتخزين هذه الكمية الكبيرة في المحطة.
من جهة أخرى، أكد المهندس أن مثل هذا الشق وبهذا الحجم لا يحدث بشكل مفاجئ، لأن جدار الخزان معدني وبالتالي التصدع أو حدوث شق سيحدث بالتدريج، مشيراً إلى أن ورشات الصيانة أشارت إلى ظهور التصدع قبل أسبوعين من الحادثة، ولكن لم يتم القيام بأي شيء لعلاجه، ويفسر ذلك بأن إصلاح تصدع الخزان يحتاج إلى إفراغه بشكل كامل.
ماذا تخبرنا صور المصادر المفتوحة عن الحادثة؟
تقدّم المصادر المفتوحة معلومات مهمة وأدلة مرئية حول ما حدث في بانياس:
تُظهر الصورة الملتقطة بتاريخ 24 آب الأحواض المحيطة بالخزانات الثلاثة وهي ممتلئة بمادة الفيول السوداء، ويبدو انسكاب النفط خارج الأحواض حيث نرى أن اللون الأسود صبغ ممرات المحطة وصولاً إلى البحر.
وتوضح الصورة التالية كمية الفيول، التي تبدأ من مصب قناة التصريف، ما يعني أن الكمية الكبيرة خرجت من خلالها.
لاحتساب أبعاد البقعة المتسربة في 24 آب، اعتمدنا على صورة ملتقطة عبر الأقمار الصناعية التابعة لشركة “بلانت”، وتظهر امتداد تسرب نفطي من محطة بانياس الحرارية الى سواحل مدينة جبلة، قاطعاً مسافة تصل إلى 20 كلم وبعمق 5 كلم.
في اليومين التاليين، تابع التلوث الانتشار باتجاه اللاذقية وفي عمق البحر حيث ابتعد من السواحل السورية لمسافة تقترب من 14 كلم في 26 آب.
في 28 آب وعبر صورة ملتقطة بالقمر الصناعي” سنتينل” 2/ Sentinel-2، يظهر التلوث منتشراً ما بين اللاذقية وبانياس طولاً وعرضاً في عمق البحر متجاوزاً حدود الصورة التي تبتعد قرابة الـ20 كلم من السواحل السورية.
وبحسب تصريحات مسؤولي المحطة الحرارية، يبلغ حجم خزانات الفيول 20.000 متر مكعب، ويحوي الخزان المعطوب 16 ألف طن من الفيول، وهنا نجد تناقضاً بين التصريحات حول حجم الفيول المتسرب والكمية الواصلة إلى البحر، إذ يميل المسؤولون إلى التقليل منها، ولكن صور الأقمار الصناعية الأولى أظهرت ما يشبه نهراً ضخماً يخترق البحر.
وبمقارنة صور الأقمار الصناعية مع فيديوات تم نشرها على محطات تلفزيونية سورية مثل “قناة سما” لأعمال إصلاح الخزان، بعد تسرب كمية الفيول بأكملها، تمكنا من تحديد الخزان المتضرر وهو الأبعد من شاطئ البحر كما نلاحظ في الصورة المرافقة.
تسرب غاب عن الإعلام
حصل تسرب صغير في 17 آب، أي قبل خمسة أيام من حدوث التسرب الكبير، حيث تظهر في صورة القمر الصناعي كمية صغيرة قرب مصب مياه التصريف، وبحسب المهندس كان هناك تسرب بسيط قبل أيام من الحادثة بسبب شق في أحد أنابيب نقل الفيول إلى المحطة وتم إصلاحه وقتها بغضون ساعات، وعلى ما يبدو فإن الفيول المتسرب سلك أيضاً طريقه إلى البحر عبر أقنية التصريف.
قياس نسبة التلوث ونوعه باستخدام صور الأقمار الصناعية
اعتمدنا في التحقيق على تحليل أنواع مختلفة من بيانات الأقمار الصناعية، بهدف مراقبة انتشار التلوث بشكل يومي، من خلال استعمال مؤشرات طيفية خاصة لقياس التلوث وبناء نسب وعلاقات بين الطبقات الطيفية لصور الأقمار الصناعية، بهدف إظهار التلوث بأوضح شكل ممكن، بحيث أن الفيول ينعكس بشكل مختلف في أجزاء معينة من الطيف الكهرومغناطيسي ما يساعد على تحديده بشكل أسهل.
استُخدمَت صور الأقمار الصناعية (Landsat-8, Sentinel-2, Planet) لمراقبة التلوث وحساب المؤشرات الطيفية، بينما استُخدمَت بيانات الرادار الملتقطة عبر القمر الصناعي (Sentinel-1) لمراقبة التلوث في الأيام التي لم تتوفر فيها صور أقمار صناعية.
وتم الاعتماد على المؤشرات الطيفية **(NDWI, MNDWI)، إضافة إلى علاقات ونسب أخرى بخاصة بين الطبقات الطيفية لصور الأقمار الصناعية لتحديد التسرب النفطي وإبرازه بشكل جليّ وواضح من خلال الصور.
بانياس ولعنة التلوث
تمتاز مدينة بانياس بجمال طبيعتها وغناها ولكن تحويلها لمركز لصناعة النفط في سوريا حمل للمدينة الساحلية لعنة التلوث، حيث أقيم فيها مصفاة نفط وشركة نقل النفط ومحطة حرارية لتوليد الكهرباء إضافة إلى معمل الإسمنت، وتتسبب هذه المنشآت في تلوث هواء المدينة بسبب الدخان المتصاعد منها.
لا تتوقف معاناة بانياس مع تلوث الهواء بسبب المنشآت الصناعية، فحوادث تسرب النفط التي لا تكاد تتوقف في بحرها تفرض تهديداً بيئياً خطيراً للغاية، وشهدت بانياس في السنتين الأخيرتين فقط حوادث عدة، ففي أيار 2019 تعرضت مصفاتها لحادث أدى لتسرب كمية غير محددة من النفط إلى البحر وأعاد وقتها مسؤولو المصفاة السبب إلى سوء الأحوال الجوية وتعرض بعض المعدات لأعطال، وفي حزيران/ يونيو 2019 تعرض أنبوبان بحريان تابعان لمصفاة بانياس للتصدع وحدوث شقوق كبيرة فيهما وعزت السلطات وقتها الحادث إلى عمل تخريبي من جهات خارجية، “عملية تخريبية تستهدف خطوط المرابط النفطية في بانياس”.
أما ناقلات النفط الإيرانية فهي مسبب آخر للتلوث سواء بسبب الحوادث وصيانتها، حيث تعرضت ناقلتان لحوادث أدى أحدها إلى تسرب كمية من حمولة الناقلة في 24 نيسان/أبريل 2021، ويعتقد أن الحادث كان بسبب استهداف الناقلة بطائرة مسيرة إسرائيلية، ورصد الباحث ويم زوينبرغ تسرب مادة الفيول بشكل شبه دائم قبالة سواحل بانياس في الأشهر الأخيرة، ويعود هذا التسرب إلى الإخلال بإجراءات الأمان عند تفريغ الناقلات، إضافة إلى غسلها وطرح الفضلات في البحر بما تحمله من زيوت.
الآثار البيئية للتلوث
التسربات النفطية تؤثر بشكل حاد في منتجات البحر الغذائية والتي يستخدمها الإنسان كأسماك التونة، الجمبري، الحبار، ويؤدي إلى انخفاض عددها باعتبار أن الحيوانات الملوثة منها أصبحت سامة وغير صالحة للاستهلاك البشري، كما أن التلوث النفطي يؤثر على الكائنات البحرية والنباتات التي تعيش في الأعماق أيضاً”.
المهندس البيئي يوسف الغبرا، يؤكد أنّ التسرب النفطي هو من “أخطر حوادث التلوث المائي في البحار، إذ تطفو غالبية مركبات النفط المتسربة على السطح المائي، وتلك المواد ذات طبيعة زيتية تنتشر على سطح الماء لتشكل طبقة سميكة لزجة.
وإذا واصلت هذه الطبقة الانتشار والتوسع فإنها تصبح بالتدريج أرق، لتبدو في النهاية كقوس قزح على سطح الماء، وتبعاً لظروف التسرب ومكانه، يمكن أن يكون التسرب النفطي ذات خطورة كبيرة على البيئة المحيطة، إذ تتأثر الحيوانات التي تعيش في منطقة التسرب النفطي ( الأسماك- حيوانات بحرية مختلفة- الطيور- الثدييات- الشعب المرجانية) بشكل كبير.
ويضيف الغبرا أن من الصعب التنبؤ بالآثار بحال عدم معالجة المشكلة “لكنه من المؤكد أن هذه الآثار سوف تستمر لسنوات وقد تحتاج السواحل والمناطق المجاورة للتسرب لسنوات قبل أن تعود إلى شروطها البيئية السليمة”.
المصدر: موقع درج