بحث
بحث

مستشفيات دمشق، رحلة العلاج والألم

 

صوت العاصمة – خاص
في مسلسل سوري عُرض قبل الحرب يظهر طبيبين يتذمر أحدهما من حال الخدمات المزرية التي تقدم في المشافِ الحكومية، فتجيب زميلته أن البلاد المجاورة سيموت المرضى على أبواب المشافِ مالم يكن لديهم تأمين صحي، لم يكن كلام الممثلين- الطبيبين مزيفاً فمجانية العلاج التي يتباهى بها القطاع الصحي تقابلها إشكالية كبيرة حول الخدمة المقدمة.

في بوابة قسم الإسعاف يجهد رجل خمسيني وهو يجري اتصالات بمشاف العاصمة بحثاً عن سرير يستقبل ابنه المريض بالسرطان في مراحله الانتقائية، فيبلغه الأطباء انه بحاجة للعناية الفائقة ولكن لا أماكن تتوفر لقبوله، يبذل الرجل قصارى جهده دون جدوى.

في دمشق توجد أربعة عشر مستشفى حكومي ستة تتبع لوزارة الصحة (المجتهد – ابن النفيس – الهلال الأحمر – الزهراوي- العيون- الباسل لجراحة القلب) وخمسة للتعليم العالي (المواساة – الأسد الجامعي – البيروني – الأطفال – دار التوليد) بالإضافة لاثنين للدفاع (تشرين – يوسف العظمة 601) وواحد للشرطة ولكن هذا العدد لا يعني بالضرورة استيعاب كافة المرضى المراجعين أو أولئك الذين يحتاجون للقبول، ما يشكل أزمه يومية تبلغ ذروتها مع شريحة الفقراء ممن لا يمكنهم التوجه للمشاف الخاصة التي تتسابق في رفع أسعارها.

الأطباء يصرخون
يقول أحد الأطباء في هذه المشاف أن الأسرة المخصصة غالباً ما تكون شاغرة بالمرضى ما يعني صعوبة قبول أي حالة جديدة واللجوء لإرسالها لمشفى آخر لن يستقبلها لأبعد من قسم الإسعاف ما يعني إشكالية متكررة لاسيما مع القادمين من أماكن بعيدة أو المهجرين، ولهذا السبب يعتمد آخرون على وساطات لحجز مكان لهم وهنا تتفاوت الاستجابة تبعاً للوساطة التي قد تصل أحيانا لمستويات عليا كقيادات أمنية وعسكرية.

الكلمة الأخيرة تشكل بدورها عقبة حين يصل الأمر لاستقبال حالات لا تستوجب الإقامة في المشفى مقابل أخرى تتفق كل الآراء الطبية على وجوب استقبالها كما تقول طبيبة أخرى في دمشق مضيفة: (أشعر بقرف بالغ حين اضطر لملء سرير لشخصية مدعومة حكومياً أو أمنياً لا يوجد سبب لبقائها طويلاً مقابل ضحية حادث سير أو قذيفة وشظايا لابد من تأمين مكان لها فنضطر لإحالتها).

لن تقف مشكلات أهل الطب عند هذه النقطة فنقص الكوادر بحد ذاته يخلق تحدياً يومياً أمام عدد قليل من الأطباء يتعامل يومياً مع أكثر من تسعين مريضاً في الساعة الواحدة كما يحدث في مشفى المواساة أو المجتهد. المفارقة هنا أن سوريا تضم أكثر من ثمانية كليات طب بشري تخرج سنوياً بحسب أرقام وزارة التعليم العالي ما يزيد على 600 طبيب يقرر غالبيتهم الساحقة مغادرة البلاد فوراً. (لا يمكننا أن نلومهم) يعقب أحد الأطباء فمن غير المنطقي أن يسحق أي منها نفسه ويضطر للعمل بشكل متواصل على مدار اليوم مقابل مرتب (تافه) حسب تعبيره ولقاء معاملة (أكثر تفاهة) مضيفاً: (ينضم لنا كل عام بضعة أطباء يغادرون سريعا غالباً لألمانيا أو الخليج سالت أحدهم عن السبب بسذاجة فقال لي: هل تقارن ستة الأف دولار بستين دولار!).

لهذا السبب يمكن تفسير قرار أطباء في الإسعاف بعدم إنعاش مرضى يتوقف قلبهم فزحمة المراجعين لن تسمح بالتفرغ لشخص دون آخر، (ليس الذنب ذنبنا ولا ذنبهم، انه ذنب حالة اجتماعية أكبر منا جميعاً).

إهمال وتسيب
لا يعني المريض الذي يراجع المشفى مسألة نقص الكوادر أو ضغط المراجعين اليومي وما يهمه هو الحصول على علاجه سواء الإسعافي أو ما يتطلب من فحوصات طبية ومخبرية وهي النقطة التي تكشف عن كمية من الإهمال تعاني منها المشاف على غالب أقسامها فيما يتبادل العاملون فيها المسؤولية.

لا يمكن هنا تجاهل حكاية طفلة قصد ذويها مشفى المجتهد لإجراء عمل جراحي بسيط فخرجت ولكن من براد الجثث، كانت المسألة لتمر مرور الكرام لو لم يقدم الأهل شكوى رسمية التقطتها الصحافة المحلية وضجت بالأمر فعزا المدير الأمر لحساسية من مواد التخدير وقرر الأطباء أن المشكلة كانت غير مقصودة قبل أن يتراجع الاهتمام بما يجري.

المسؤولية هنا مشتركة كما يصفها طبيب أخصائي أمضى وقتاً طويلاً في المشافي الرسمية والخاصة   فالطبيب الاختصاصي يتحمل وزر قراره والمقيم يتحمل وزر تنفيذ عمله والممرضات عليهن مسؤولية مراعاة الحالة مضيفاً: (كثيراً ما توفي مرضى على التنفس الصناعي لاختناقهم بمفرزاتهم دون انتباه أحد لضرورة تدبيرها).

علاج مجاني؟
الراية التي ترفعها الحكومة حول مجانية العلاج في المستشفيات التابعة لها لم تعد مقنعة بالنسبة للمرضى والمراجعين للمراكز الصحية، فنقص الأدوية والتحاليل المخبرية والصور باتت مسالة تعني ضرورة دفع مبالغ مالية لقاء تحصيلها من الخارج، هذا ما يخلص له مريض حدد له الأطباء موعداً لعملية لاستئصال المرارة قبل أن يفاجأ بمن يطلب منه شراء مواد التخدير على نفقته الشخصية لأن المشفى الواقع في قلب العاصمة لم يعد يمتلك هذه المواد ويحتاج مناقصة تتطلب وقتاً لشرائها من جديد. كلام يشبه ما تقوله سيدة اضطرت لدفع أكثر من ثمانين ألف ليرة لقاء تأمين أدوية لعلاج والدها الذي يلقى علاجه في أحد هذه المشاف والمفاجئ أن الأدوية المطلوبة هي من بديهيات العلاج بحسب وصفها.

ماذا سيفعل والد ذلك المريض بورم الدم (لوكيميا) وهو يجهد باحثاً عن سرير لولده القابع في قسم إسعاف أحد المشاف دون فائدة؟ سيتفق الجميع على رفض استقباله لأن لا أماكن شاغرة متوافرة ألا مكان واحد يتجه له الشاب وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة دون أن ينتبه له ممرض أو طبيب وهم مشغولون بضحايا قذائف تتساقط حولهم.

اترك تعليقاً